للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعوة الأولاد للوالدين]

وهنا مسألة مهمة -أيها الأحبة- وهي: دعوة الأولاد للوالدين، ينبغي أن نعرف أن وقوع الوالدين أو أحدهما في المنكر لا يسقط حقهما في البر والاحترام، وغاية ما يفقدانه عند ارتكاب الإثم أو الدعوة إليه ألا يطاعا فيما دعوا إليه من المعصية، بل وتبقى حقوقهم ثابتة لا يهزها شيء، ألم يقل الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:١٥] لأن شأن الوالد والوالدة عظيمٌ جداً جداً، فإن هذا الحق العظيم وتلك المكانة والمنزلة التي أنزلها الله الوالدة، وأوجب فيها الطاعة على الأولاد لوالديهم لا يهزها أن يكون الوالد أو الوالدة قد ارتكبا معصية ما لم يأمرا بمعصية أو يدعوا إلى شركٍ وكفر، فحينئذٍ لا يطاعا فيما دعوا إليه، وإنما يؤمرا ويدعيا إلى الله عز وجل باللين والحكمة والمعروف، وينبغي لمن يدعو والديه، أو يدعو أحدهما إلى معروفٍ يفعلانه أو لمنكرٍ يتركانه ألا يصدع قاعدة البر والحب والإجلال والاحترام، بل ربما دعا الأمر والحال هذه إلى بذل مزيدٍ من البر والرفق والعناية حفاظاً على منزلتهما، وتودداً وتقرباً وإشفاقاً بهما حتى يقلعا عن الذنب الذي به يستوجبان سخط الله وعذابه، وإنك لتعجب من بعض الأبناء حينما ينكر أحدهم على والده -مثلاً- شاب يرى والده يدخن، فيظن هذا الشاب الملتزم الصغير الناشئ مع أحبابه، المتحمس للدعوة المحب للخير، الذي قد أشرق الإيمان في وجهه، يظن أن إغلاظه وشدته ورفعه يده ورفعه صوته أمام والده أن ذلك مما يقربه، أو مما تبرأ به ذمته في الأمر والنهي، وذلك في غاية الغلط، بل إن الأب إذا ارتكب إثماً لا بد أن يتودد إليه في الأمر والنهي، وأن يتلطف به، وألا تسقط حقوقه، فمن حقه أن يُطاع، لو أن أباً من الآباء عنده منكر من المنكرات، ثم قال لولده: اذهب بإخوانك إلى السوق، اذهب بأمك إلى المستشفى، اشتر الحاجة الفلانية، ما ينبغي له أن يقول: أنت مدخن، فأنا لا أطيعك، أو: لا تستحق الطاعة لأنك عصيت الله ورسوله، لا، وليس من حقه، بل لا يجوز أن يعصيه، لابد أن يطيعه، وهذا واجبه، ولو عصاه لعد ذلك من العقوق الذي يأثم به ذلك الشاب الناشئ المستقيم الملتزم الصالح، ولو كان أبوه عاصياً لله عز وجل؛ لأن حق الوالد حال معصيته أن يُدعى إلى طاعة الله، لا أن يعصى فيما أوجب الله، حقه أن يدعى إلى طاعة الله إلى مرضاة الله إلى الاستقامة على مرضاة الله، إلى الاستقامة على شرع الله، لا إلى أن يعصى فيما أوجب الله من حقه وطاعته، وكذلك الأم إذا كان عليها من الملاحظات ما يدعو إلى الإنكار عليها، فإن ذلك لا يعني إسقاط حقها أو عدم العناية أو الالتفاف أو الاكتراث بأمرها، وإن الواجب أن تطاع فيما أمرت به في طاعة الله، ولا تطاع في معصية الله، وتكرم ويتقرب إليها أكثر، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعل في مزيد البر والصلة والرقة واللطف والمحبة والعناية سبباً في إقلاعها عن الذنب وإقلاعها عن المعصية.

بالأمس القريب سمعت من أحد الأفاضل غاية سخطه، وغاية انزعاجه من أبيه الذي بلغ من العمر سبعين عاماً، وما ذاك إلا أن والده في هذا السن قد تزوج مرتين أو أكثر من ذلك وهو منكرٌ على والده أنه يتزوج، فقلت: يا سبحان الله! أتنكر على أبيك شيئاً أنت احتجت إليه بعد حين؟! أتنكر على أبيك أنه تزوج على أمك؟! نحن لا نقول لك: اضرب الدف على رأس أمك فرحاً بدخول ضرةٍ عليها، وإن كانت قد بلغت من الكبر عتياً، ولا نقول لك: ينبغي أن تتشمت على أمك لدخول ضرة عليها، ولكن لا يعني ذلك أن تسخط على أبيك، ولا يعني أن تهجره، ولا يعني ذلك أن تقصر في حقه، بل إن أباك لو أمرك أن تذهب بزوجته -وهي ضرة أمك- أن تذهب بها في سوقٍ أو مستشفى أو أمرٍ أو حاجة لقضائها؛ فإنه يتعين عليك أن تطيع أباك وألا تعق أمك، مع غاية المراعاة والعناية لمشاعر أمك.

إننا لنسمع العجب العجاب من بعض البنات يوم أن ترى مجموعة منهن أو بعضهن يرتكبن العقوق المتعمد مع سبق الإصرار والترصد ضد أبيهن؛ لأن أباهن قد تزوج على أمهن زوجة أخرى، ويا سبحان الله! ألأنه قد فعل شيئاً مما شرعه الله وقرر أمراً قد أذن الله به عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:٣]؟! ألأنه تزوج الثانية أو الثالثة يجوز للبنات أن يهجرن أباهن؟! يجوز لهن ألا يسلمن عليه؟! هل يجوز لهن ألا يتبسمن في وجهه، وأن يقابلن الابتسامة بالاكفهرار، وأن يقابلن البشاشة بتقطيب الجبين، أو يقابلن الرقة واللطف واللين في الكلمة والعبارة والجملة بالصوت الأرعن، وهو العبارة الفضة الغليظة؟ لا.

هذا لا يجوز، فهذا عجبٌ عجابٌ في كلا الطرفين، بعضهم ينكر على أبيه إذا فعل شيئاً مباحاً، وتجده يعقه ولا يحترم أمره ونهيه، وبعضهم يظن أن فعل والده للمعصية موجبٌ أو مؤذنٌ بإسقاط جميع حقوقه، ومن تأمل قول الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:١٥] إذا أمرا بالشرك، إذا أمرا بمعصية الله فلا تطعهما، ولكن يبقى الجانب الآخر: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:١٥] والمصاحبة بالمعروف تعني: طاعتهم، تعني: خدمتهم، تعني: الرعاية، تعني: الدعوة، تعني: الاهتمام والرفق واللطف واللين والمحبة.

إني لأعجب من شابٍ اتصلت أخته إلي وقالت: إن فلان بن فلان الذي تعرفه وهو ممن عليه سيماء الصلاح، يرفع صوته على أبيه، ويهز يده أمامه، ولا يكترث لأمره، ولا يلقي له بالاً أبداً، فقلت: ولم يا أمة الله؟ فإني لا أعرف عن فلان إلا كل خير.

قالت: لأن والدنا مسرفٌ شرهٌ في التدخين على ما هو عليه من صلاحٍ، بعض الناس مبتلى والعياذ بالله، قد تجده محافظاً على الصلوات وصاحب صدقات وأعمال خيرة، لكنه ابتلي بمعصية من المعاصي، هذا الأب قد ابتلي بشرب التدخين، فما كان من ولده إلا أن أغلظ عليه إغلاظاً عظيماً، وأثر في فؤاد الأب، بل وكسر قلبه، وذلك لا يجوز البتة، ولما سألته أبدى شيئاً من الاعتذار ووعد بعدم معاودة ذلك.

الشاهد أيها الأحبة: أننا حينما نمارس ونطبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنزل لا نتصور أننا في صالون ونأمر وننهي، ولا نتصور أننا في سيارة، أو نأمر الإخوان، أو القريبات أو العمات، أو الذي معنا في إطار الأسرة أن نأمرهم من علو، ينبغي أن نجعل مع الحسبة دعوة، وكلكم يعرف أساليب الدعوة وأهمها: العلم والحكمة والبصيرة، والرفق واللين والشفقة على المدعو، الحرص على المدعو ألا يفلت من يدك، ينبغي أن يتلطف الكبار في دعوة الصغار بالرفق واللين؛ لأنه أدعى إلى القبول وعدم النفرة خاصة إذا كان الولد في مرحلة المراهقة، وهذه قضية أخرى.