للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعوة الآباء للأبناء]

الأولى: دعوة الأبناء للآباء، وهنا دعوة الآباء للأبناء، ينبغي للآباء وينبغي للأمهات أن يتلطفوا في دعوة الصغار، وأن يكون ذلك بالرفق واللين، وأن يكون ذلك بالترغيب بالجائزة بالمكافئة بالتشجيع بالإغراء بالأمور التي تقربه وتحفزه إلى أن يفعل من الخير الذي تصبو إلى أن يفعله.

وكذلك بشيء من الشكر والثناء، والتقدير والإعجاب، وإعلان ذلك بين أفراد الأسرة أن فلاناً تجنب الكذب وبإمكانه أن يكذب، أن فلاناً رد الأمانة وكان بوسعه أن يأخذها ويجحدها، أن فلاناً لم يفعل كذا وكان بوسعه أن يفعل ذلك، هذه من الأمور المهمة والجلية.

أيها الأحبة: ربما يتحول الأمر والنهي للأبناء، وخاصة المراهقين، ربما يتحول من الشفقة والخوف عليهم والحرص على سلامتهم إلى التحدي وإثبات الوجود وبيان القوة واستعراض العضلات، وحينئذٍ يبدأ مسلسل المطاردة بين الأب وابنه والأم وبنتها، أو بين الوالدين والأولاد، كيف يأتي ذلك؟ حينما يسمع الأب أن الولد قد ارتكب منكراً من المنكرات، ثم يأتيه بكل ما أوتي من صوتٍ عالٍ، وأغلظ عصا يملكها، وبأقسى عقوبة يملكها، ثم يلوح ويزمجر ويزأر ويصول ويجول على هذا الولد، لأفعلن بك، ولأقطعنك إرباً، ولأجعلنك أسوة، ولأحبسك، يريد الأب في صورة كهذه أن يثبت جدارته، أن يقول: نحن هنا، الأسد في المنزل رب البيت لم يغب إن المسئول عن البيت حاضر، ولا يمكن أن تطوف هذه الألاعيب، ونحو ذلك، ولا يعلم أنه في المقابل يزرع حلبة للمصارعة يدخل هو وولده في جولاتٍ خاسرة تنتهي بهروب الولد من المنزل، تنتهي بكراهية الولد لأبيه، تنتهي إلى عدم الاستجابة، حتى ولو أذعن أمامه، فإذا خلا بنفسه ورأى أن الحسيب أو الرقيب من الوالدين أو ممن يبعثهم الوالدان عيوناً على هذا الولد قد ابتعدوا، حينئذٍ.

خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري

إنني أحذر من هذا الأسلوب في التربية، أحذر الآباء الذين يظنون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة يعني أن تجرب أغلظ العصي، وأن تجرب أشد أنواع العقوبة، وأن تلوح بأقسى العبارات، وأن تهدد بغليظ القول وفظ الكلام، إن ذلك يحول ولدك إلى ندٍ لك، بالأمس كنت أباً تأمر فيأتمر بأمرك، وتنهى فينتهي عما نهيت عنه، وتدعو فيستجاب لك، وتتكلم فينصت لكلامك، أما إذا بدأت الاحتساب في المنزل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة، إذا بدأت بهذا الأسلوب، فإنك ترفع ولدك من درجة البلوى إلى درجة الند والقرين والمنازلة، وتدخل أنت وإياه في حلبة، ثم كلٌ منكم يقول: من الذي ينتصر؟ وربما انتصرت على ظاهر الحلبة وأمام الجمهور أمام الأم والإخوة والأخوات، ولكن الابن قد جعل الشيطان ينتصر لما خلا به، وجعله يفعل ألواناً من المعاصي والمنكرات، بعضها لا يميل الولد إلى فعلها، ولا يرغب أن يقع فيها، غاية ما هنالك أنه أراد أن ينتقم من أبيه، أراد أن يثبت لوالده الذي هدده ورفع الصوت عليه أنه قادرٌ على أن يفعل كل ما توعده على فعله، ربما جريمة واحدة، فسرد عليه الأب جملة من الجرائم، إن فعلت كذا وإن فعلت كذا وإن فعلت كذا وعد عليه عشر جرائم، ثم قال: لأقطعنك وأذبحنك وأطردنك وأسجننك وأجلدنك وأفعلن بك، والولد مشكلته واحدة، وهذا عد له عشراً، ثم يدخلون جولة أو حلبة المنازلة والمصارعة، ثم ينتقم الولد لرد الاعتبار وهذه الشخصية التي كسرت وحطمها الأب، خاصة إذا كان الأمر والنهي أمام الأقارب أو أمام الجيران، إن بعض الآباء أرعن في أمر ولده ونهيه، فتراه لا يحسن النصيحة والأمر والنهي إلا أمام الناس، بل ربما الولد يحتاج أن تأمره وتنهاه على خلوة حتى وإن كانت المشكلة على إطار البيت، حتى لو لم يكن في البيت إلا الأب والأم والإخوة والأخوات، وبلغوك قالوا: إن فلاناً فعل كذا، خذ فلاناً على انفراد ولا يلزم أن يكون من أول يوم أو ثاني يوم، خذه في الوقت الذي تراه قد هدأ وسكن واطمأن، ثم تنفرد به، يا بني! بلغني أنك فعلت كذا، وأنت تعلم حبي لك، وتعلم شفقتي عليك، وتعلم أنني ما أسهر الليل إلا لأجلك، وما أكدح في النهار إلا لأجلك، وتعلم شفقتي بك واعتزازي وفخري بصلاحك واستقامتك، وخوفي عليك من قرناء السوء، يا بني! هل فعلت ذلك؟ يقول لك: نعم، فعلت ذلك، فتقول: يا بني! إني أخشى عليك، وتعلم أن هذا أمرٌ قد حرمه الله، وقال الله عز وجل فيه كذا وتعلم أن هذا قد حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وتعلم يا بني أن مغبة هذا الأمر خطيرة، وأن عاقبته وخيمة، وأن الأمر ربما وصل إلى كذا وكذا وتكون العاقبة والحال، ثم بعد هذه النصيحة الرقيقة اللطيفة خذ ولدك هذا واحتضنه وقبله على خديه، وقبله على جبينه، واجعل رقبتك على كتفيه شيئاً ما، واسأل الله وأنت تحضنه، واجعله يسمع هذا الدعاء: اللهم لا تخزني فيه، اللهم لا ترني فيه يوماً أسوداً، اللهم لا تفرح عليه حاسداً، اللهم لا تشمت به عدواً.

اجعله يسمع هذه الدعوات التي هي جزءٌ من النصيحة، أتظن أن ولدك بعد ذلك يجرؤ على أن يخالف أمرك؟ لا والله، لكن كيف يجرؤ على المخالفة إذا قلت: يا أنا يا أنت في البيت، يا رأسي يا رأسك، لا نجوتُ إن نجوتَ، لا يصلح هذا الأسلوب! أو تقول لأمه: أخبريه أن الليلة هي الفاصلة هي القاضية هي المهلكة، بعض الأبناء يهرب ويسعى في الشوارع ضائعاً تائهاً هائماً على وجهه، ثم يأتيه بعض قرناء السوء ويأخذونه ويسكنونه يوماً أو يومين، وربما تفاقم الأمر وكانت المسألة إنكار معصية صغيرة، ثم أوقعوه في فواحش، ثم أوقعوه في كبائر، ثم جعلوه ربما مطية يروج، ويبيع ويشتري، ويوزع ويقسم، ويناول مخدرات ومحرمات ومصائب كبيرة.

ونحن -أيها الأحبة- في مجتمعٍ نتصارع مع عناصر شتى في تربية الأولاد، من منّا يقول: أنا الذي أنال نصيب الأسد مع أولادي؟ المدرسة لها نصيب، والمنزل له نصيب، وربما الجيران والأقران في الشارع لهم نصيب، وكلٌ له نصيب، وبعض البيوت لا تجد للآباء فيها نصيباً، النصيب لفئتين: للقنوات الفضائية، وللمدرسة والخادمة ذات النصيب الباقي، والأب لا يعرف شيئاً من ذلك.

أيها الأحبة في الله! ختاماً أؤكد هذه المسألة وهي أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان المنكر من الوالدين، فلا بد أن نعالجه بمزيدٍ من الطاعة، في طاعة الله، ومزيد من الحب والهدية، والعناية والرفق واللين، والكرامة والتودد، وإننا مهما تكلمنا عن البر وفضله وثوابه وعظمة وجزائه عند الله عز وجل؛ إلا أن كثيراً منا لا يحسنون كيف يتقربون إلى آبائهم وأمهاتهم، هل فينا -يا عباد الله- من رأى والده ذات يومٍ قد مد رجله، فأقبل فقبل رجل والده؟ هل فينا من رأى ذات يومٍ والدته قد مدت رجلها، فنزل وخر وقبل رجل والدته؟ هل فينا من يتعود أن يقدم حذاء والديه إذا أراد أن يخرج أو يدخل؟ نعم.

فينا وقليلٌ ما.

إذا جلست على طعام هل تقدم أطيب ما فيه لوالديك؟ إذا وجدت نفسك تشتهي هذه القطعة، ثم امتدت يدك إليها تقول: مادامت لذيذة في نفسي وفي خاطري فإنها في فم والدي أو والدتي ألذ؟ هل تتلطف في أن تقدم طيب الطعام لهم؟ هل تهيئ الطعام إذا كنت على فاكهة، أخذت تقطع من هذه الفاكهة وتلينها وتجعلها قطعاً صغيرة ورقيقة حتى يأكلها متلذذاً بها، أو أن الواحد يقعد كأنه طاحونة بر، وعنده شاي، ومركب له طقم ضروس، ما يحسن الأكل، ثم يقوم قبل والده؟ هذا ليس صحيحاً، هناك مسائل نحتاج أن نتفنن في التودد للوالدين، أن تجد على الوالد ثوباً خشناً ثم تأتي فوراً بثوبٍ ناعمٍ رقيقٍ طيب تقول: يا أبت! هذا ألذ هذا ألطف، إن الذي يقدم البر لوالديه، بإذن الله إذا أمرهم بأمرٍ ائتمروا، فيه خير، وإذا نهاهم عن منكر انتهوا؛ لما يرونه من أن التزامه قد دعاه إلى البر والعناية والرعاية، أما هذا الذي لا يعرفهم إلا افعلوا ولا تفعلوا، فإذا جاء البر ما عرفوا منه شيئاً، فقولوا لي بالله وأسألكم بالله، كيف يأتمران بأمره، وينتهيان عن نهيه؟! هذه مسألة مهمة جداً.