للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان فضل المشيب في الإسلام]

أيها الأحبة: نقول لمن شابت لحيته، أو شاب ذقنه وعارضاه، نقول لمن كبر سنه، أنت من أنت في مكانتك ومنزلتك وقدرك، أنت الذي شبت في الإسلام، فاحمد الله على ذلك، يقول صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة في الإسلام، كانت له نوراً يوم القيامة) رواه الترمذي والنسائي، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعه بها درجة).

فيا من اشتعل رأسه شيبا! يا من كبر وهو يتردد على المسجد كل يومٍ خمس مرات! احمد الله على أن بلغت هذه الحال وأدركت هذه السنين وأنت على التوحيد والعبادة، بلغت من الكبر عتيا ولم تسجد لصنم، ولم تركع لوثن، بل أنت عابدٌ خاشعٌ منيبٌ أوابٌ أواهٌ محبٌ لله تعالى، فمن حق هذا الذي شاب على هذه الحال أن يجل ويوقر، وأن يدعى له بحسن الخاتمة، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم) رواه أبو داود، فأنت لك شرفك ومنزلتك، تقدم في المجالس، وتقدم في الكلام، وتقدم في كل شيءٍ حتى في أمر الدين إن لم يكن معك من هو أعلم منك، بل إذا استوى كبير السن ومن هو أصغر منه في العلم، فيقدم كبير السن لكبر سنه: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، وإن كانوا بالسنة سواء، فأقدمهم هجرة، وإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا) رواه مسلم وغيره، يقول ربنا عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:٣٧] والنذير هو الشيب كما جاء في تفسير الآية، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئٍ أخر أجله حتى بلغه ستين سن) رواه البخاري.

قال القرطبي رحمه الله: والمعنى أن من عمّره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لأن ابن الستين قريب من معترك المنايا، في سن الإنابة والخشوع، وترقب المنية والاستعداد للقاء الله عز وجل.

ويقول قتادة رحمه الله: [اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نغتر بطول أعمارنا].

ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) وليس كل طولٍ في العمر مزية يُحمد العبد عليها، بل ربَّ أناسٍ طالت أعمارهم وشابوا واحدودبت ظهورهم، وضعفت قواهم ولكنهم في مزيد من سخط الله وغضبه، واستجلاب عقابه وعذابه

المرء يفرح بالحياة وطول عيشٍ قد يضره

تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره

وتسوءه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره

كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائل لله دره

ليس كل طول عمرٍ يحمد عليه العبد، إلا ما كان في طاعة الله: (طال عمره وحسن عمله).

فيا أيها الشيخ المبارك! يا من مضى من عمرك خمسون أو ستون ماذا قدمت؟ وماذا أعددت؟ وما هي عدة الرحيل وأنت تتهيأ لينقلك الأحباب والورثة، والأبناء والزوجة، لينقلوك من سعة دارك وقصرك، إلى ضيق لحدك وقبرك، ومن أنس أحبابك وخلانك، إلى وحشة الدود والجنادل والظلام في المقبرة؟ ومن نور هذا البيت وإضاءة هذا القصر، إلى ظلمة هذا اللحد والقبر، ماذا أعددت وأنت على وشك الرحيل: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه).