للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستعداد للقاء الله سبحانه وتعالى]

أيها الشيخ المبارك: جاوزت الخمسين أو أقبلت عليها أو تمضي فيها ولم تحفظ بعد جزءاً من كتاب الله عز وجل.

أيها الشيخ المبارك: جاوزت الخمسين وأنت لا تزال تدع الصلاة مع الجماعة وتصلي في دارك بأوهى عذرٍ، ولو كان عرضاً قريباً أو سفراً قاصداً، أو مصلحة مادية لانقلب ذاك الضعف قوة، وذلك التقوس في ظهرك اعتدالاً وصلابة، وتلهث وراء عرضٍ من الدنيا يسير، أولما دعاك المنادي حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح تثاقلت وجثمت على فراشك، أولما دعاك عبدٌ من عباد الله إلى عرضٍ فانٍ، وحطامٍ حقيرٍ من الدنيا انقلبت شاباً صلباً قوياً جلداً، طويل اللسان إلا في ذكر الله، طويل الباع إلا في الإنفاق في سبيل الله، طويل الخطى إلا في المشي إلى طاعة الله ومرضاته! عجباً لمن شاب على هذه الحال! نسأل الله السلامة والعافية.

البعض يشيب ويكبر ويطعن في السن، ولم يتعود بعد أن يتقدم بين يدي ربه في الهزيع الأخير من الليل، بل لا زال بعضهم يكبر سنه ويطول سهره، ويكبر سنه ولا يزال يسهر افتتاناً بهذه القنوات الفضائية، وحديثه في المجالس إذا تصدرها رأيت في القناة الفلانية في البارحة الساعة الثانية ليلاً من قال كذا وكذا، وشاهدت في القناة الفلانية في الساعة الثالثة ليلاً من فعل كذا وكذا، ومثلك حقيقٌ به أن يكون في الثانية والثالثة ليلاً راكعاً ساجداً، باكياً أواباً، خاشعاً خاضعاً لله، يرجو الآخرة ويخشى عذاب ربه.

[رأى أبو الدرداء رجلاً فقال له: كم عمرك؟ قال: ستون سنة، قال أبو الدرداء: الله أكبر! منذ ستين سنة وأنت تسير إلى ربك، يوشك أن تصل، فبكى الرجل فقال: ما الحيلة رحمك الله أبا الدرداء، قال: أصلح ما بقي يغفر الله لك ما مضى].

أيها الشيخ المبارك: يا من شبت وشاب ذقنك وعارضك، وسواءً ظهر الشيب أم أخفيته بالصبغ أو الحلاقة: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل منهم من يجاوز ذلك) إذا علمت بقول نبيك صلى الله عليه وسلم، فلا تظنن أن حساب المنايا وقدوم الآجال يتوقف إن أنت غيرت من هيئتك، أو أخلفت من حالك، ظناً أن الآجال لا تأتي إلى كبار السن، واعلم أن مزيداً من التلميع أو التغيير في هذه الشخصية، لن يجعل المنية تبتعد قليلاً أو كثيراً، واعلم أنك لا تصلح ما أفسد الدهر:

عجوزٌ تمنت أن تعود صبية وقد ذبل الخدان واحدودب الظهر

فراحت إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

إذا جاء النذير، وضعفت القوة وضعف البصر، واحتجت إلى العصا، وأدركت أنك مودعٌ، وأنك في انحدارٍ وانقطاعٍ من هذه الدنيا،

إذا الرجال ولدت أولادها وأصبحت أسقامها تعتادها

وكثرت من سقمٍ عوادها تلك زروعٌ قد دنا حصادها

فما أجمل الاستعداد للقاء الله عز وجل، يا من شبت ماذا تصنع إذا بلغت هذه الحال والله عز وجل يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:١٥]؟ قال ابن كثير رحمه الله: وفيه إرشادٌ لمن بلغ الأربعين، أن يجدد التوبة وأن يعزم عليها.

وقال النووي رحمه الله في رياض الصالحين: بابٌ في الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر.

ونقلوا أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة.

وقال مالك رحمه الله: أدركت أهل العلم عندنا وهم يطلبون الدنيا والعلم، ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت.

نحن لا نقول يجب على كل من بلغ الأربعين أن يقطع مصالح الدنيا من كسبٍ حلالٍ وسعي على الذرية والزوجة والولد، بل نقول ينبغي لمن بلغ هذا السن أن يستعد، وأن يأخذ مزيداً من الاستعداد في وقته وطاقته، وإنفاقه وماله؛ ليقدم على الله عز وجل بذلك، ولتعلم أن العبرة بصلاح النهايات لا بقوة البدايات، ولتعلم أن المدار على آخر العمر، وأن الأعمال بالخواتيم، ولهذا كان من الدعاء المأثور، اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ولا شك أن من شاب وتقدمت به السن، فهو أقرب إلى الموت، لأن الشباب ينتظرون مزيداً من العمر، وأما من شاب فلم يبق في عمره بقدر ما مضى، فالحرص الحرص يا من شبتم، والحرص الحرص يا كبار السن، والحرص الحرص يا من تخطون في هذه الأعمار إلى المقابر والدار الآخرة، الحرص على الإكثار من الطاعات، والإكثار من الاستغفار، والاستكثار من ذكر الله عز وجل، فإن الإنسان إذا تعود شيئاً أكثر من ذكره وشب وشاب ومات عليه:

عود لسانك ذكر الله تحظ به إن اللسان لما يعتاد قوالُ