للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستعداد للمشيب]

أيها الأحبة في الله: الاستعداد للمشيب حتى لا تكون الخطبة والكلمة لمن اشتعلت رءوسهم شيباً، بل وحتى تكون الموعظة للمتكلم والسامع، والشاب والذي بلغ سن المشيب، إن صلاح المشيب يتطلب استعداداً في وقت الشباب، الذين شابوا وتعودوا دخول المساجد قبل المؤذنين، والذين شابوا وتعودوا أن يمكثوا في المساجد ليكونوا آخر الناس خروجاً منها، الذين شابوا وأصبحت قلوبهم ترفرف في المساجد، وتهوي وتخفق شوقاً إلى المساجد، الذين شابوا وهم إذا دخلوا في المسجد أصبحوا كالسمكة في الماء، نعيماً ولذة، وإذا خرجوا منها أصبحوا كالسمكة قد أخرجت من الماء فهي تحن إلى الماء؛ لأن فيه أنس أرواحهم، ولذيذ ذكرهم، وجميل إخباتهم، ولذتهم في ركوعهم وسجودهم، هؤلاء لم يبيتوا ليلة غافلين عن المساجد فأصبحوا فجأة عشاقاً لها، لا إنما عودوا أنفسهم على ذلك، وقطعوا قطعاً وفصلاً جذرياً جوهريا في مرحلة من مراحل عمرهم استعداداً وقراراً صائباً حاسماً لا تردد فيه؛ أن ما مضى وانتهى ما انتهى، ليعود الواحد استعداداً للقدوم بين يدي ربه.

نحن ما خلقنا في هذه الدنيا لنظل ونستقر فيها، إنها ممر وليست مستقراً، ومن تعلق بالدنيا استوحش من الآخرة، ومن اشتاق إلى الآخرة أعد لها وعمل لها، قيل للحسن البصري: [ما بالنا نكره الموت ونحب الدنيا؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخركتم، فتكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب].

فيا أيها الأحبة: لا بد من الاستعداد للمشيب، ولا بد من تعويد النفس على المكث في المساجد، والتبكير إليها، ما الذي يضيرك أن تعود نفسك تاراتٍ وتارات، حتى يصبح أمراً لا بد منه ولا تقبل أن تتأخر عنه، أن تذهب إلى المسجد قبل الأذان وتمكث فيه؟ وما الذي يصدك أو يردك أن تمكث فيه؟ وما الذي يصدك أن تعود نفسك البقاء في بيوت الله، على حلق الذكر ورياض الجنة، ومجالس العلم، حتى تعود نفسك الأنس واللذة وأنت تخر بوجهك وجبهتك ساجداً إلى الأرض، عود نفسك أن تتلذذ بتمريغ الجبهة والأنف في حال السجود.

وتأمل حالك وأنت تخضع وتركع لله عز وجل متلذذاً بهذه الحال التي حرم منها من لا يستطيع الركوع، أو حرم منها من لا يستطيع السجود.