للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نسبة حياة الدنيا إلى حياة الآخرة]

الحياة الحقيقية ليست هي هذه الحياة التي نحن فيها؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:٣٨] إنما هذه الحياة الدنيا بما فيها من نعم وما فيها من مظاهر وما فيها من مراتب وأموال وزوجات وضياع وقصور وغير ذلك كلها وليست في بلادكم وحدها، بل في الكرة الأرضية وما حول هذه الكرة وما خلق الله في هذه الحياة الدنيا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان هذا كله: (إنما مثل الحياة الدنيا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم -في البحر- ثم يلجئه أو يخرجه فلينظر هل يخرج من ذلك بشيء أو هل ينقص من ذلك بشيء) يعني: إنما هذه الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة كمقدار ما يعلق بإصبعك من الماء حينما تدخله في البحر ثم تخرجه، أما الآخرة فهي المحيط فهي البحر المتلاطم بأمواجه الذي لا يحصيه إلا الذي خلق، هذه أيها الإخوة هي الحياة القصيرة، حياة كلها كدر، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤].

طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

الحياة، اسأل نفسك يا من تظن أنك الآن في الحياة الحقيقية، أخي الكريم هل عافيتك لا يكدرها المرض؟ هل حياتك لا يهدمها الموت؟ هل اجتماعك لا ينغصه الفراق؟ هل ملذاتك لا تكدرها المخاوف؟

يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب

ما حل بغيرك يحل بك، أقل ما فيه السقم والموت، من الذي رأيته سالماً لا ينصب ولا يمرض ولا يتعب؟ ومن رأيت مخلدا؟

ولو كانت الأعمار تبقى لواحد رأيت رسول الله حياً مخلدا

إذاً فليست هذه بحياة، أين أبوك؟ أين جدك؟ أين أمك؟ أين ذهبوا؟ اسألوا الملوك أين ذهبوا؟ هل نزل في القبور معهم خدم؟ هل نزل معهم الوزراء؟ اسألوا الأثرياء هل فتح البريد الإلكتروني في اللحود والقبور؟ اسألوا الأغنياء هل نزل بالشيكات والأرصدة في اللحود؟ اسألوا الرؤساء حينما يقبر أحدهم كسائر الناس وربما تتجول الكلاب في المقابر فتبول على قبري أو قبرك أو قبر أي ملك من الملوك، لا قيمة لهذا البدن لا مكانة لهذا البدن، إنما القيمة والمكانة والمنزلة الحقيقية إنما هي في هذه الروح، الروح إن كانت متعلقة بالله جل وعلا فلتبشر بخير عظيم وفضل عميم في الدنيا والآخرة.

ولا تظنوا أن العمل الصالح في الحياة الدنيا لا يجد العبد نتيجته إلا في الآخرة، لا، جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة، إن البشرى والبركة والنعم وحسن الجزاء والثواب هو في الدنيا وهو أيضا في الآخرة: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:٣٠]، {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:١٢٠].

فيا أحبابنا! هل من الأحياء من لا ينام إلا وقد قلب عينه في فيلم السهرة ولا ينام إلا الساعة الحادية عشرة والنصف؟ أو في المسلسلات اليومية؟ أسألكم بالله هل هذه حياة؟ أهذه حياة أن يسهر الإنسان في الليل على الأفلام والمسلسلات، ينام متأخراً ويتخلف عن صلاة الفجر، يخرج إلى عمله متأخراً، يقابل الناس بوجه عبوس قمطرير، ضعيف في الصلاة لا يحضر قلبه، بطيء حينما يقوم إليها، لا يخشع لذكر الله، لا تدمع عينه من خوف الله، لا يرقب في مؤمن إِلاً ولا ذمة، إن وجد مالاً قبضه لا يسأل عن حله أو حرمته، أهذه حياة؟! لا، هذه شريعة الذئاب، هذه مناهج الغاب، هذه حياة السباع التي يبغي بعضهم على بعض.