للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فتن تفتك بوحدة الأمة]

بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم عاشت أمة الإسلام حقبة من الزمن في ظل وحدة تلم شتاتها، وتوحد صفها وكلمتها، وتحوط الأمور بعنايتها ورعايتها، وتحقيق ما يصلح شأنها، وما زال الحال بالمسلمين من نقص إلى مثله، ومن انحدار إلى أسفل منه، حتى انتهى الأمر اليوم إلى ما ترون وتسمعون، وقد مر بالمسلمين في فترات ماضية أنواع وألوان مما حل بهم اليوم، ولكن لا أظن منصفاً أو عاقلاً متأملاً بنظرة شاملة، يقول: إنه مر بالمسلمين فيما مضى مثلما حل بهم في هذا الزمان وهذا العصر وهذه الحقبة، ولستم بحاجة أن أفصل لكم ما نعنيه بما أصاب المسلمين، فترى كثيراً من المسلمين يجهلون الإسلام جهلاً مطبقاً، ولا يعرفون عن الإسلام إلا اسمه، والانحراف عن العقيدة السوية أمر منتشر عند كثير من المسلمين أيضاً، وفشو البدع، وغزو المسلمين في أخلاق شبابهم، وعفاف نسائهم، ناهيك عما حل بأعراضهم من استباحة، وما حل بأراضيهم من سلب، وما حل بأموالهم من نهب، وما حل بدمائهم من نزيف، وما حل بجراحهم من ثلم.

ثم أصبح اجتماعهم فرقة، وبات حال الواحد منهم يرى أن الموت بات أمنية، والفراق للدنيا أجمل أغنية.

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وأن المنايا قد غدونا أمانيا

أو كما قال بعضهم:

ألا موت يباع فنشتريه وهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن نفس حر تصدق بالوفاة على أخيه

وهل يلام من قال اليوم: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:٢٣] وهو يرى تسلط أبناء القردة والخنازير، اليهود الحفنة القليلة، يرى تسلطهم على الأمة العظيمة، وهو يرى ويبصر حروباً وقودها جماجم المسلمين، وحصادها أعراضهم وأرواحهم.

وهل يلام على ذلك وهو يرى الذين تدخلوا في شئون المسلمين باسم حقوق الإنسان، يراهم لا يعتبرون لمسلم قدراً، ولا يحسبون له حساباً، حتى ولو وطئت المنجزرات والدبابات أشلاؤه في الشيشان، أو سورته المدافع من حوله، وأظلته القاذفات السابحات من فوقه في البوسنة والهرسك، أو ظل في الجبال والأدغال يطالب بأدنى حقوقه، ويفنى ويضيع ويضل ويذهب كثير منهم {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:٩٨].

كل هذا فهل يلام من يرى ما حل بالمسلمين وهو عاجز، أن يتمنى أن لو كان مات قبل هذا، وكان نسياً منسياً، أما من يستطيع أن يفعل شيئاً ولو يسيراً، فالصبر والمصابرة والجلد والمجالدة أولى به، وهو المشروع في حقه، حتى لا نظن أنها دعوة إلى اليأس، أو حرب على التفاؤل، أو نداء إلى القنوط.

إن ما مضى بمجموعة لا يساوي أشد طعنة طعن بها المسلمون، وهي ضرب المسلمين في وحدتهم، وتفجير العصبيات والقبليات في أوساطهم، وتشجيع التحزب على الضلالات والشعارات، حتى أصبح الحديث عن وحدة المسلمين عند القوميين جريمة، وعند العلمانيين خرافة، وعند المنهزمين أضغاث أحلام.