للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجهاد يعلم الصبر]

والحاصل أن هذه الحادثة انتهت بوفاة زوجته وطفلته، وزرته في المستشفى -مستشفى الحمادي- الدور الأول غرفة (١١٣٦) فلما دخلت عليه وكنت أقطع أصابعي ماذا أقول له؟ وبماذا أعزيه؟ فلما دخلت عليه إذ به يبتسم، فسلمت عليه وقبلت جبينه وعانقته وقلت له: الحمد لله على ما قضى وقسم، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب.

فماذا كان جوابه؟ قال: يا أخي! إن الله جل وعلا قد اختصني بخير وأرجو أن يأجرني عليه، فعجبت من شأنه، ولما تذكرت أنه من المجاهدين عرفت كيف علمه الجهاد الصبر.

يا إخواني: لو وقعت هذه المصيبة لآخر لأخذ يسب القدر والمقدر، وأخذ يسخط ويدعو ويزمجر بالويل والثبور على هذه الدنيا وعلى هذا الحادث، لكني عجبت من صبره ومن ثباته ومن شأنه هذا كله، فقلت له: يا أخي! والله إنما رأيت منك من الصبر والثبات لدليل على قوة العقيدة؛ لأن المسلم يعتقد أن المقادير بأمر الله، ونعلم أن القضاء واقع وأن الأمور بأسبابها، والمسلم يعتقد أن الله ما قدر قضاءً إلا كان رحمة بعبده، فأنت -يا أخي- وليد رأيت في قدر الله عليك في حريق قدميك وموت طفلتك وموت زوجتك أن ذلك عين الرحمة من الله بك وبهما، فرأيت فيك هذه الابتسامة، ابتسامة الرضا بقدر الله جل وعلا.

فيا أحبتي في الله: هكذا وجدت هذه الصورة وهذه القصة المؤثرة المعبرة في هذا الشاب، فأردت أن أحدثكم بها لما اختار الإخوة موضوع محاضرتنا أن يكون قصصاً وعبراً.

وهذا اليوم العصر جرى اتصال هاتفي بـ الرياض مع أحد الأصدقاء فسألته، قلت: كيف الأخ وليد؟ قال: أبشرك أن رجله كأنها تعود من جديد، مع أن القدم احترقت يقول: والله كأنما تنبت من جديد! ويقول: بمشيئة الله حالما تشفى سأذهب إلى الجهاد مرة أخرى ولا حاجة لي في هذه الدنيا.

فاعلموا -أيها الأحبة- أن الله اختص لمعالي الأمور رجالاً، قد يقول البعض: وما أكثر من هذا؟ هذا جاهد وماتت زوجته وماتت طفلته، وحصل له ما حصل، ماذا يريد أكثر؟ لكن اعلموا -أيها الأحبة- أن معالي الأمور لا ينالها إلا طائفة قليلة من البشر، القمم، الذرى، ولذلك كان الجهاد ذروة سنام الإسلام لا يناله إلا من انتصر على شهواته، وانتصر على الضعف والجبن والخوف والخور، وتوكل على ربه حق التوكل، وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطئه لم يكن ليصيبه.

يقول وهو يعد نفسه ليعود إلى الجهاد: فقلت: ادعه إلى أن يتريث حتى يتماثل للشفاء، وإلا فاعلم أننا إن قلنا له: اقعد عن الجهاد فإن ذلك لن يطيل في عمر، وإن قلنا له: اذهب إلى وجه المعركة ومنطقة الالتحام والمواجهة فإن ذلك لا يقرب أجله

تأخرت أستبق الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما

الموت لا يتقدم ولا يتأخر، وكما يقول ذلك الشاعر:

أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي

فإنك لو سألت بقاء يوم عن الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع

والله إني لأظن وأغلب الظن أن أخي وليداً هذا سيموت شهيداً في سبيل الله على هذه المعنويات، وعلى هذا الصبر، وعلى هذا الاحتساب، برحمة الله قبل كل شيء، وبسالف جهاده، وبصبره على هذا الحريق الذي ماتت فيه زوجته الحافظة التقية -أسأل الله أن يجمعنا بها في الجنة وإياكم أجمعين- وبموت طفلته، والله إن الله يريد به خيراً، أسأل الله أن يثبته وأن يثيبه وأن يحفظه، وأرجو أن يكون الله قد اختار له منازل الشهداء والأنبياء، تلكم منازل لا ينالها إلا قلة وندرة من الناس، وإني لأعجب ممن يتمنون مقابلة البشر الضعفاء ولا يشتاقون إلى مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشتاقون لمجالسة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، والصحابة والسلف الصالح والتابعين وابن تيمية وخيرة عباد الله الصادقين الذين شهد لهم الأولون والآخرون بالصلاح والاستقامة.