للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بداية نشأة موسى]

الحمد لله القائل في محكم كتابه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:٥١] أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فالعاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في محكم كتابه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:٥١].

معاشر المؤمنين: ذكر الله قصة موسى مع فرعون في سور كثيرةٍ من القرآن الكريم، وقصة هذا النبي الكريم -عليه وعلى نبينا أتم الصلاة والتسليم- مع فرعون الطاغية العنيد تتكرر وتبرز في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وحين، لأنها تصور حقيقةً واقعةً، إنها تصور الصراع بين الحق والباطل، إنها تصور الصراع بين أولياء الرحمن وجند الشيطان منذ فجر الوجود وميلاد البشرية.

ولد موسى عليه السلام في عهد الطاغية الأكبر فرعون الذي ادعى الربوبية وأعلن التمرد والعصيان، وزعم أن لا إله ولا رب سواه، وذاق بنو إسرائيل من أذى فرعون ومن شره ما لم يذوقوه من قبل ولا من بعد {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٤].

لقد رأى فرعون في منامه رؤيا أفزعته، فاهتم لها واغتم بها، رأى ناراً قد أقبلت من بيت المقدس حتى وصلت إلى بلاد مصر وأحاطت بدورها وبيوتها، فأحرقتها وأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل دون أذى، فدعا فرعون الكهنة والسحرة والمنجمين، وسألهم عن هذه الرؤيا، فعبروها قائلين: إنه سيولد في بني إسرائيل غلام يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، ويكون ذهاب ملكك يا فرعون على يديه، وسيخرجك وقومك من بلدك، ويبدل دينك، وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه.

عند ذلك طار صواب فرعون، وجُنَّ جنونه، فأمر بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، أما الإناث فلم يأمر بقتلهن، بل أمر بتركهن لأجل الخدمة والتسخير؛ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.

وفي أثناء شدة هذا العذاب ولد موسى عليه السلام، كانت ولادته خطباً أليماً بالنسبة لأمه، ولما قرب وقت الوضع، وبدأت آلام المخاض، حزنت أمه حُزناً شديداً، واشتد همها وغمها، وأوحى الله إليها إلهاماً ألا تخاف ولا تحزن، لما سبق في علم الله أن هذا المولود سيكون له شأن عظيم، فولدته أمه خفية عن القابلات، وقذف الله في قلبها السكينة، وأمرها أن ترضعه حتى إذا خافت عليه فلتصنع له تابوتاً من الخشب، ثم تضعه فيه، وتربط التابوت بحبل لئلَّا تذهب به الأمواج، ثم تلقيه في البحر، وفعلت ذلك ثقةً بوحي الله وإلهامه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧].

وفي ذات يوم انفلت رباط التابوت، فذهب الماء بالتابوت، وفيه الوليد الرضيع الرقيق موسى عليه السلام، ذهبت الأمواج بالتابوت، تُرى إلى أي مكان سترحل الأمواج بهذا الرضيع وهذا الوليد؟ سترحل به إلى من هو أشد الناس بغضاً لبني إسرائيل، وأشدهم كراهيةً لأبنائهم، ذهب التابوت بموسى إلى بيت فرعون في ساعة كان الجواري يغتسلن ويستقين فيها، فأبصرن هذا التابوت، فأخذنه من الماء، وظنن أن فيه مالاً، فحملنه على عادتهن، وذهبن به إلى سيدتهن آسية زوجة فرعون، فلما فتحت التابوت، وجدت فيه هذا الغلام، فلما رأته، ألقى الله محبته في قلبها.

فلما جاء فرعون ورأى الغلام طار عقله وأراد قتله، وطلب الذباحين ليذبحوه، فالتمست آسية زوج فرعون منه أن يتركه لها، لأنها لا تلد: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص:٩] فقال لها فرعون: بل هو قرت عين لك أنت، أما أنا فلا حاجة لي فيه.