للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العبر من قصة موسى عليه السلام]

الحمد لله الواحد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه وعن المثيل وعن الند وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، كل ذلك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار؛ عياذاً بالله من ذلك.

معاشر المؤمنين: لو تأملنا هذه القصة الجليلة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في مواضع متعددة من كتابه الكريم، لوجدنا فيها جملة لا تعد ولا تحصى من الدروس والمواعظ والآيات والعبر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:٣٧].

هذه القصة لو لم يأت فيها إلا البشارة للدعاة المخلصين، لو لم يكن فيها إلا البشرى للذين يقومون بالدعوة إلى الله في كل مكان، وأن الله سبحانه وتعالى ينصرهم مهما أظلم الليل، ومهما ادلهمت الخطوب، ومهما تكالبت قوى الطغيان، ومهما تجمع أعوان الشر، فإن الله سبحانه وتعالى ينصر دعاة دينه، وينصر المصلحين المخلصين العاملين بكتابه وسنة نبيه {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:٥١] النصر للدعاة المخلصين المصلحين في الدنيا والآخرة، والفوز لهم في الدنيا والآخرة، والفلاح لهم في الدنيا والآخرة.

تأملوا وتدبروا هذه العبرة العظيمة: ذلك الطاغية الذي أمر القابلات أن يخبرنه بأي مولود يولد في بني إسرائيل حتى يقتله، وحتى لا يبقى في بني إسرائيل باقية من الذكور، يأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يتربى ويترعرع وينشأ نبيه الكريم في بيت الطاغية فرعون، ينشأ الداعية في بيت الطاغية ويترعرع ويمشي في أرض قصره وجنانه وحدائقه، ثم بعد ذلك يأمره الله سبحانه وتعالى، ويكلفه بنبوءته، ثم يعود إلى فرعون شامخ الرأس معتزاً، رافعاً رأسه بما أوحى الله إليه، آمراً إياه بما أمره الله ببلاغه أن يهتدي، وأن يؤمن، وأن يخلي بينه وبين بني إسرائيل، وبين الناس أجمعين أن يلحقوه وأن يتبعوا دينه، لكن ذلك الطاغية يأبى ويعاند، فيأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يجعل هلاكه في أعظم آية للناس أجمعين، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩٢].

إنها لآية عظيمة في فرعون، إنه لدرس عظيم لجميع الدعاة أمام الطغاة.

إذاً يا عباد الله: إنها لبشارة لجميع المسلمين في كل مكان، إنها لبشارة للدعاة في كثير من الدول المجاورة والبعيدة، الذين يلقون ألوان الأسى والعذاب والتشريد، يرون الإهانة في زوجاتهم، وفي بناتهم، ويرون القتل في أبنائهم، ويرون المضايقة والتشريد عن بلدانهم، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ولا حاكمية، ولا قيادة، ولا أمر، ولا نصر، ولا عزة، ولا انقياد إلا لله، ولا تطبيق إلا لحكم الله، ولا انقياد إلا لشريعة الله، هذه كلمة لا تعرف إلا في هذه البلاد، وهذا نظام لا يعرف إلا في هذه البلاد الطيبة.

نسأل الله أن يديمه علينا، وأن يديم العز لنا ولولاة أمورنا وعلمائنا، كي نبقى سعداء راضين بما قسم الله لنا، شاكرين له على ما أنعم به علينا من هذا العز والتمكين.

إنها لعبرة عظيمة، إن حفظ الله جل وعلا لعظيم.

وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمانُ

أي عناية أعظم من أن يوضع طفل لا يملك شيئاً في تابوت صغير، ثم يلقى في البحر، فيحفظه الله بحفظه، ويكلؤه برعايته، تذهب به الأمواج المتلاطمة في البحار المليئة بالحيتان، والمليئة بكل شر وأذى حتى يصل إلى بيت الطغاة، فيترعرع وينشأ فيه، ويقذف الله تلك المحبة في قلب زوجة فرعون لهذا النبي الكريم؟! معاشر المؤمنين: إن الله لينصر الذين ينصرون دينه، وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل، إذا علم الله منا إخلاصاً، وعلم منا انقياداً، وعلم منا إرادةً لوجهه الكريم، ولم يكن في نياتنا أدنى طمع في مال، أو منصب، أو جاه.

إن الله سبحانه وتعالى لينصر كل قائم لله بحق، ويجعل القلوب تفتح أبوابها لكلامه، ويجعل الأفئدة والجوارح تتطاير وتبادر لكي تنفذ ما أراد.

إنا -معاشر المؤمنين- أتينا من إخلاصنا، وبلينا من ذات أنفسنا، فقدنا الإخلاص وفقدنا إرادة وجه الله خالصاً في كل دقيق وجليل، ومن أجل ذلك فعلى قدر إخلاصنا تأتي النتائج في الدعوة، على قدر إرادتنا وجه الله تأتي النتائج وتأتي الثمرات في كل عمل نعمله.

أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المخلصين الذين يريدون وجهه الكريم، اللهم سخر لنا ولولاة أمرنا ولإمام المسلمين ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد ولاة أمرنا بفتنة، وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلال، وأراد نساءنا بتبرج وسفور، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك.

اللهم عليك بالشعوبيين الفرس الذين لا يؤمنون بكتابك كاملاً، ولا يصدقون بنبوة نبيك، ويسبون صحابته، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واهلكهم بدداً، ولا تبق فيهم أحداً، اللهم أهلك زروعهم وضروعهم، اللهم اجعلهم غنيمةً باردةً للمسلمين، اللهم قرب هلاكهم، اللهم قرب هلاكهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا من أمرك بين الكاف والنون! اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم ارزقنا توبةً قبل الموت، وراحةً عند الموت، ولذةً وأنساً ونعيماً في القبور بعد الموت، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا غائباً إلا رددته.

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم جنبنا ما يسخطك، واعصمنا مما يغضبك، اللهم خذ بأيدينا إلى مرضاتك.

ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، اللهم عليك توكلنا، وإليك أنبنا، ولك أسلمنا، وبك خاصمنا، ولك توجهنا، فلا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى ما عندنا، وبارك لنا فيما آتيتنا.

اللهم ارزقنا الاستدراك قبل الفوات، والاستعداد قبل الممات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم، واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم افسح لهم اللحود مد أبصارهم، اللهم افتح لهم أبواباً إلى النعيم والجنان.

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦].

اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على نعمه التي لا تستطيعون شكرها، واشكروه على آلائه التي لا تقدرون حصرها يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.