للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية تحري الدقة في وصف الواقع]

من العجائب والغرائب: أن نجد عند بعضنا مبالغةً في وصف الواقع، وتزيّداً واستطراداً في وصف الأحداث ونقلها، والواجب أن نكون أُمناء في الكلمة، وأن نصف الواقع بدقة، وأن ننقل الحدث حينما تدعو الحاجة لنقله بدقة، وألا نبالغ أبداً، صف ما رأيت، وانقل ما سمعت ولا تتجاوز.

إن المبالغة في وصف الأحداث قد تفضي إلى التثبيط والإرجاف والتخويف والإضعاف، وإن التهوين والتساهل في نقل الأحداث، ووصف الواقع قد يفضي إلى عدم أخذ الحيطة الكاملة والأهبة التامة أيضاً، فحينما نكون دقيقين في وصف واقعة معينة، فإن ذلك يجعلنا أمناء في نقل الكلمة، ونجعل الآخرين يأخذون للقضية أو للحدث حقيقتها التي لا زيادة فيها ولا نقصان.

فلو أن واحداً من الناس يقول: يا إخوان! شبَّ حريق في العمارة الفلانية -واشتعلت الأدوار الثلاثة، والأبواب، والنوافذ، فيأتي الإنسان الذي عنده رغبة في إطفاء الحريق، يقول: ماذا بقي؟ القضية انتهت والمبنى انتهى واحترق، إذاً لا حاجة، ما تجد عندك حرقة لأن تبادر، لأن المبنى احترق وانتهى، وفي الحقيقة أنه ما احترق إلا دور واحد، أو دوران فقط، فلو نقلت إليه الحقيقة، لبادر لاستدراك ما يمكن استدراكه من البناء دون أن يحترق، ويأتي آخر، يقول لك: والله إنه حصل حريق، لكنه في نافذتين وباب فقط، ولا أكثر، أو المبنى سليم، فهذا الذي يرغب أن يتحرك للإطفاء، يقول: مجرد نافذتين وباب، لا تحتاج إلى هذا الجهد كله، الناس الذين حوله يستطيعون أن يصلحوه، فانظروا من أين جاء الخلل: لما بالغنا في نقل الحدث أصبح فيه إرجاف وتثبيط ويأس، وعدم تفاؤل وإمكانية، أو غلب على الظن أنه ما عادت هناك إمكانية للسيطرة على هذا الحريق، ولما هونا من شأن الحدث، أصبح الأمر هيناً وكلناه وأسندناه إلى الذين بجواره، لكن إذا نقلنا الحدث بدقة، فإن ذلك يدعو إلى أن كلاً يأخذ أهبته، ويستعمل قدرته، ويشارك بحسب طاقته.

أقول هذا الكلام أيها الأحبة! ونحن نلاحظ أن هناك أحياناً مبالغات في نقل بعض الأحداث، ووصف بعض القضايا والوقائع، والواجب أن نكون دقيقين في نقل الكلام والأحداث، لست بحاجة أن أضرب الأمثلة مثلاً بقضية أفغانستان، فأذكر أن الكثير وأنا كنت واحداً من هؤلاء وهذا ليس والله دعوى أو بدافع كذب -معاذ الله- ولو كذب الإنسان ما كذب في منبر ولا في بيت الله، لكن بدافع الحماس يُحدث الناس على القضايا بما يُتفاءل به، تحدث الناس عن القضايا أنه سيكون كذا، وسيكون كذا، والأمل أن يحدث كذا، والأمل أن يحدث كذا، وأطلنا الحديث في الآمال والتفاؤلات، وما كان الحديث دقيقاً في وصف الواقع، فلما جاءت الغرائب والعجائب، قلنا: كيف حصل هذا؟ لو كنا أيام أفغانستان نسمع وننقل ونتداول الواقع بدقة بحسناته وسيئاته ما كان الذي يحدث اليوم أمراً عجيباً ولا غريباً علينا، لكن كنا نتكلم عن الواقع بنفس فيها تفاؤل، وأنه سيحدث كذا، وسيكون كذا بإذن الله، وهذا يدل على كذا، لم تكن هناك دقة في وصف الواقع، لكن نقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:١٤٣] لن يضيع كل جهد من جهاد، أو حماس، أو تبرع، أو بذل، أو عمل يرجو به الإنسان وجه الله عز وجل، حتى وإن تقاتل المجاهدون، أو اختلفوا، أو قامت بينهم الفتن، نسأل الله أن يصلح أحوالهم بإذن الله عز وجل.