للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أسباب البكاء خشية الله]

قال القرطبي رحمه الله: والبكاء فيض العين أو دمع العين هو بحسب حال الذاكر، فربما يبكي الإنسان حينما يسمع أوصاف الجلال، فحينما تقرأ في القرآن آيات عظمة الله؛ علمه قوته جبروته أن الله جل وعلا يسير الجبال فتسير، يجعلها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، أن الله يجعل البحار تنسجر، والنجوم تنكدر، والسماء تنفطر، والكواكب تنتثر، حينما تقرأ مثل هذه وحينما تبكي لهذه الأوصاف، فإنك تبكي لأوصاف الجلال والعظمة التي هي من علم الله وقوته وقدرته وجبروته جل وعلا.

وقد يبكي الإنسان حينما يرى أوصاف الجمال، فإذا رأيت بستاناً جميلاً ورأيت وروداً متفتحة ورأيت زهوراً عبقة بالعطر، أخذت تبكي شوقاً إلى الجنة؛ لأن ما ترى في الدنيا هو شيء قليلٌ قليل جداً جداً بالنسبة لما هو موجود في الآخرة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢٥] إذا ذكر نعيم الولدان والأولاد والذرية، ذكرت نعيم الجنة، وإذا ذكرت القصور، ذكرت أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أفشى السلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام، حينما تعلم هذا النعيم المقيم العظيم من الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ} [الواقعة:١٠ - ١٤] السابقون أغلبهم في الزمان الماضي، والقليل منهم في الزمن المتأخر: {وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ} [الواقعة:١٤ - ٤٠] فالبكاء إما أن يكون لأوصاف الجلال وأوصاف عظمة الله جل وعلا، وإما أن يكون لأوصاف الجمال؛ الشوق إلى ما أعد الله جل وعلا.

وقد كنت أحفظ عن جدتي رحمها الله رحمة واسعة وأحفظ عن عجائزنا وشيوخنا الكبار في السن إذا جلسوا في الطعام، قالوا: أسأل الله الكريم من فضله، يا ألله نعيم الجنة، يا ألله الجنة التي لا يتفرق أحبابها ولا يزول نعيمها، أما الآن فتكاد تنعدم سماع مثل هذه الكلمات، رحم الله الآباء والأمهات والأجداد والجدات، كانوا يعلموننا الشوق إلى الجنة، وكانوا يربون في نفوسنا أن ما نرى من النعيم ليس بشيء بالنسبة لما ينتظر المؤمنين عند الله جل وعلا، ولكن في هذا الزمان قل أن تسمع هذا، وقل أن تجد من يربي أولاده على مثل هذه المعاني.

الحاصل أيها الإخوة: أن البكاء من خشية الله أمر عظيم جداً جدا، روى الحاكم من حديث أنس مرفوعاً: (من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة) فأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من عباده الذين يستظلون بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ونسأل الله جل وعلا أن يكرم المؤمنين والمؤمنات بهذا الفضل.

ألا وإن هذه الفضائل ليست للرجال وحدهم دون النساء، وإنما هي لأولئك جميعاً، وذكر ابن حجر رحمه الله: إن مما يخص به الرجال دون النساء في الحديث كقوله ورجل قلبه معلق بالمساجد، قال: لأن صلاة المرأة في بيت زوجها أفضل.

هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.