للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التحذير من سوء الخاتمة]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.

جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: برزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.

فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذارع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) حديث صحيح.

أيها الأحبة في الله: هذا الحديث عمدة في حسن الخاتمة وسوءها، نسأل الله جل وعلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، نسأل الله جل وعلا الثبات على نعمة الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الأنبياء وسيد المرسلين، أول من ينشق عنه القبر، وأول من تفتح له أبواب الجنة، وأول من ينال أعلى منازلها، وهو صاحب المقام المحمود، وهو صاحب الوسيلة والشفاعة العظمى، الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كان يطيل قيامه وصيامه، وكان يطيل سجوده وتهجده، ويقول: (يا مقلب القلوب! يا مقلب القلوب! يا مقلب القلوب!).

فيا عباد الله: اسألوا الله جل وعلا بهذا الدعاء، اسألوا الله الذي بيده النواصي، اسألوا الله الذي بيده القلوب وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن التي تليق بجليل وجهه وعظيم سلطانه، اسألوا الله أن يثبت قلوبنا وقلوبكم على الإيمان، وأن يعصمنا من الزيغ والضلالة، ومن الغواية بعد الهداية، ومن الفساد بعد الصلاح.

وأنتم يا شباب المسلمين! إن الكثير من شبابنا يسوفون التوبة ويؤجلون الإنابة، وينشغلون بالعبث ويلهون في الباطل ظناً منهم بأن الحياة أمامهم، وهم في ريعان الشباب، وفي ربيع العمر، وفي زهرة الدنيا يظنون أن الاستقامة تعقيد، وأن الطاعة وسوسة، وأن الإخبات لله تضييق وتشديد لا والله يا عباد الله! إننا نفوت على أنفسنا حظاً عظيماً من السعادة بقدر ما نفوته من الأعمال الصالحة، واعلموا أن الموت ساعة لا تتقدم ولا تتأخر، فمن الذي يضمن خروجه من المسجد؟ ومن ذا الذي يضمن يقظته من فراشه؟ ومن ذا الذي يضمن عودته إلى بيته؟ ومن ذا الذي يضمن وصوله إلى عمله؟ إذا كان هذا شأننا فيا عجباً لقسوة قلوب لا تدري متى تخطف، وهي مع ذلك عابثة لاهية:

تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر

وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري

فيا عباد الله: استعدوا للقاء الله، وبادروا بالتوبة، والخضوع والإنابة، إنما هذه الدنيا متاع قليل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:٥٥] والله إن هذه الدنيا بما فيها من ملذات وشهوات، ومراكب وقصور، ودور وضيعات، وزوجات وجنات، وأموال وذريات لا تعدل غمسة في نار جهنم، وإن الشقاء في هذه الدنيا بما فيه من الفقر والمرض، والسقم والذلة، وضيق الحال لا يساوي غمسة في نعيم الجنة، يوم القيامة يؤتى بألذ أهل الدنيا حالاً وأيسرهم عيشاً ثم يغمس غمسة وهي أقل جزء من أجزاء اللحظة يغمس غمسة في النار فيقال: يا بن آدم! هل رأيت نعيماً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب! ما مر بي نعيم قط.

ينسى نعيم الدنيا كله في غمسة صغيرة دقيقة في النار.

ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً وفقراً ومرضاً فيغمس غمسة واحدة في الجنة فيقال: يا بن آدم! هل مر بك بؤس قط، هل مر بك شقاء قط؟ فيقول: يا رب! ما مر بي شقاء، وما مر بي بؤس.

فلنعد لذلك اليوم وهو يوم لابد أن نَرِدَهُ على صراط أدق من الشعرة وأحد من السيف، الناس يمضون عليه على قدر أعمالهم، وكلاليب جهنم عن يمين ويسار، فمن المؤمنين الذين يسعون ونورهم بين أيديهم مد أبصارهم يمرونه كالبرق الخاطف، ومن المؤمنين من يمرونه كأجاود الخيل، ومنهم من يمره كأسرع الناس عدواً، ومنهم من يحبو على الصراط حبواً، ومنهم من يمضي عليه فتدركه كلاليب جهنم، أدركته أعماله السيئة وتفريطه في حقه، وتضييعه وتقصيره في جنب الله وطاعته.

فلنعد لذلك اليوم، ولنعد لدار سوف نسكنها، سوف نبقى فيها، والله ما نفع أهل الأموال أموالهم: أين الملوك؟ أين الأمراء؟ أين الوزراء؟ أين الرؤساء؟ أين الخلفاء؟ أين الذين ملكوا؟ أين الذين نالوا؟ أين الذين جمعوا؟ أين الأغنياء؟ أين الأثرياء؟ أين الكبراء؟ لقد ودعوهم وودعناهم في حفرة لا فراش فيها ولا خادم، ولا مائدة فيها ولا باب إليها، لا نور يضيئها ولا هواء يهويها، لا شيء فيها إلا خرقة بيضاء يحسدك الدود عليها فينتزعها من جسمك، ولا يتركها لك، كتب الله أن تعود إلى هذه الدنيا في نهاية المطاف وفي خاتمة الأمر كما نزلت عليها، حتى كفنك ينازعك الدود فيه فيقرضه منك خيطاً خيطاً، شعرةً شعرةً، وينتزعه من جسدك، فإن منَّ الله عليك وكنت من الصالحين عوضك الله بهذا الكفن أبواباً إلى الجنان، ونعيماً مقيماً في دار الخلود، فتفتح لك أبواب الجنة ويضاء لك القبر، وتؤنس بعملك الصالح، وتبقى زاهياً متغنياً، تقول: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة.

وإن كنت من أهل الشقاء، من أهل الضياع الذين ضاعت أموالهم في الربا، وتركوا المساجد، وغفلوا عن الجماعات، وضيعوا حقوق الله، وانتهكوا محارمه، في كل سفر وفي كل ذهاب وإياب، لا يراعون حرمات الله، يواقعون الفواحش لا يبالون، فإنك لا تجني من الشوك العنب، وكل سيلقى عمله أمامه.

يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل

الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل

انظروا واجمعوا في صناديقكم، لو زار كل واحد منا قبره في الأسبوع مرة، في نصف الشهر مرة، في الشهر مرة وأنت تنظر: هذا صندوقي، هذا فراشي، هذه داري، سأسكنها وحدي، هل وضعت فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وضياعاً، وحرماناً وحسرة؟؟ أسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، اللهم أبقنا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء.

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً الله فجازه بالحسنات إحساناً.