للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الغنى]

إن الغنى ليس بأصفار على يمين الأرقام في الأرصدة الجامدة أو المتحركة في البنوك، وإن الغنى ليس في الضِيَاع والعقارات المتناثرة يمنة ويسرة، وإن الغنى ليس في المراكب، وكم من رجل أصفاره لا تعد على يمين أرقام حساباته، وكم من رجل لا يحصي صكوكه ووثائق أملاكه، وكم من رجل أوتي من الضِيَاع والضيعات والأموال كثيراً ومع ذلك تجد الريال يؤرقه، والقليل يؤذيه، والدينار يشغله ويحرمه لذة النوم، بل وربما ألوان الطعام لا يتلذذ بها.

أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقال

ويقول آخر:

أحب ليالي الهجر لا فرحاً بها عسى الله يأتي بعدها بوصال

وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل وصل معقب بزوال

تجد ذلك الذي تزاحمت الأرقام في أرصدته لا يهنأ؛ لأنه ربما تذكر ذكرى الحسرة لا ذكرى العبرة، تذكر أنه سيفارق هذا؛ ولأجل ذلك تجد بعضهم بقدر لهثه وسعيه ودأبه وكده في جمع الدنيا على اختلاف أصنافها ومجالاتها لا يتلذذ بها، فكلما تجدد له نوع كسب من الدنيا تجددت له علة جديدة، إما في همه أو في بدنه، أو فيمن حوله.

لذا فإن من كانت الآخرة همه آتاه الله اجتماع الشمل ثم أورثه وأنعم عليه بغنى القلب؛ ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) رواه مسلم.

فتجد هذا الذي جعل الآخرة همه قانعاً راضياً سعيداً باشاً ضحوكاً، طيب القلب لين الجانب، خافض الجناح حسن المعاملة، في كل أمر تراه راضياً مرضياً، غير لحوح في بذل الأسباب للحصول على الدنيا، يعمل بقول نبيه: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) يعني: بذلاً معقولاً مناسباً في الحصول على الدنيا، لا أن يجعل الدنيا همه فتشغله، يبيت عليها، ويرى في المنام أحلاماً حولها، يستيقظ مفكراً فيها، ويمشي خطوات في تحصيلها، ويحزن ساعات على فواتها، ولا يجتمع بأهل لأجلها، ولا يصل رحماً لأجل صلته بها، ولا يبر الوالدين لأجل اشتغاله بها.

هكذا -أيها الأحبة- من كان غناه في عرضه فلن يجد لذة الغنى الحقيقية، إن لذة الغنى هي في القلب، ولأجل ذلك تجد الكريم غنياً في قلبه:

تعود بسط الكف حتى لو أنه ثناها لقبض لم تجبه أنامله

فلو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله

هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله

تجد العبد الغني في قلبه لا يتردد ببذل دنياه، إن أدبرت لا يحزن، وإن أقبلت لا يفرح {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:٢٣] يجد أن من صميم زهده في الدنيا أن ما أقبل منها فلأجل الله، وما أدبر منها فبقدر الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجعل ما أقبل علينا من الدنيا في طاعته، وأن يجعل ما أدبر عنا من الدنيا حراماً يصرف عنا بمنه وكرمه.