للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحث على الإكثار من ذكر هاذم اللذات]

قال الربيع بن خثيم: أكثروا من ذكر هذا الموت، فإنكم لم تذوقوا قبله مثله.

ثم إن الروح المفارقة للجسد لا تدري أين المستقر والمستودع، لا تدري أين القرار والبقاء، هل هو في الجنة أم في النار، فإن كان العبد عاصياً مصراً على المعصية إلى أن أدركه الموت، فإنه قد يغلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار، فتتضاعف بذلك حسرته وألمه، ولا ينفعه عند ذلك ندمه، وربما كشف له مع ذلك عن مقعده من النار، فيراه حين سكراته أو يُبشَّر به، فيجتمع له مع كرب الموت وألمه العظيم معرفته بسوء مصيره، عياذاً بالله من تلك الحال وسوء المآل.

عباد الله: من تذكر تلك الأحوال والمقامات التي يمر بها العبد إبان خروج روحه؛ أدرك الحكمة من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بقوله: (أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت).

وحسبكم من ذكر الموت -يا عباد الله- أن نستعد له قبل نزوله، وأن نقصِّر الآمال، وأن نرضى بالقليل من الرزق، وأن نُقبل على الآخرة، وتهون علينا مصائب الدنيا، فكل مصيبة دون الموت تهون، وإذا عظمت مصيبتنا في وفاة حبيب لنا أو قريب فلنذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عظمت عليه مصيبته، فليذكر مصيبة المسلمين فيَّ).

نعم يا عباد الله: من اشتدت وعظمت وكبرت مصيبته على نفسه، فليذكر أعظم مصيبة فُجعت بها أمة الإسلام، بموت نبيها صلى الله عليه وسلم.

كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح

سيصير المرء يوماً جسداً ما فيه روح

بين عيني كل حي علم الموت يلوح

نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح

لتموتن ولو عمِّرت ما عمر نوح

لما أنزل الله جل وعلا قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:١ - ٣] علم صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله.

قالت عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: سبحان الله وبحمده، أستغفره وأتوب إليه).

قالت أم سلمة رضي الله عنها: (كان في آخر عمره صلى الله عليه وسلم لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده، فذكرت ذلك له فقال: إني أمرت بذلك وتلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١]).

وما زال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب الناس في حجة الوداع قال لهم: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع.

ولما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس في طريق بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: (أيها الناس: إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، ثم حض على التمسك بكتاب الله وأوصى بأهل بيته خيراً).