للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مرض موته صلى الله عليه وسلم]

ولما بدأ به صلى الله عليه وسلم مرض الموت خرج إلى أصحابه في المسجد وهو معصوب الرأس، فقام على المنبر وقال: (إن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة) ثم هبط عن المنبر فما رؤي على المنبر بعد ذلك.

وفي المسند عن أبي مويهبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع وقال: ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم قال: يا أبا مويهبة! إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة، فخيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي والجنة) ثم انصرف وابتدأه وجعه الذي قبض فيه، وكان أول ما ابتدأ به صلى الله عليه وسلم من مرضه وجع الرأس.

وكان صداع الرأس والشقيقة يعتريه كثيراً في حياته، ويتألم منه أياماً، ففي المسند عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرض الذي بُدئ فيه، فقالت عائشة: وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: وددت أن ذلك كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك، فهيأتك ودفنتك، قالت عائشة: كأني بك في ذلك اليوم عروساً ببعض نسائك، أي بعد موتي) فاعجبوا لغيرة النساء، رضي الله عن أم المؤمنين عائشة.

فقال صلى الله عليه وسلم: (بل أنا وارأساه، ادعوا لي أباك وأخاك، حتى أكتب لـ أبي بكر كتاباً).

ولم يزل ذلك الصداع وتلك الحمى يشتدان برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استأذن أزواجه ليبقى في بيت عائشة فأذنّ له، وجيء به محمولاً إلى بيتها، ثم إن الحمى اشتدت به صلى الله عليه وسلم في مرضه، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحل أوكيتهن، يتبرد بذلك من شدة الحمى، وكان عليه قطيفة، فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده على النبي صلى الله عليه وسلم من فوقها، فقيل له في ذلك، فقال: (إنَّا كذلك يشدد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر، وقال: إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم).

ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وحصل له ذلك غير مرة، فأغمي عليه مرة وظنوا أن وجعه ذات الجنب، فلما أفاق أنكر ذلك وقال: (إن الله لم يكن ليسلطها علي -يعني: ذات الجنب- ولكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر) أي: من سم الشاة التي أهدتها اليهودية له فأكل منها يومئذ، فكان ذلك يثور عليه أحياناً، فقال في مرض موته: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني؛ فهذا أوان انقطاع أبهري).

وكان ابن مسعود وغيره يقولون: [إنه صلى الله عليه وسلم مات شهيداً من السم] وقالت عائشة رضي الله عنه: [ما رأيت أحداً كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم].

وكان عنده في موته سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة بها، ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفه وقال: (ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه) ثم تصدق بها، فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين، أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من النساء، فقالت قطِّري لنا في مصباحنا من عكة السمن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في جديد الموت.

وكان عند عائشة إزار غليظ مما يصنع في اليمن وكساء، فكانت تقسم بالله أنه صلى الله عليه وسلم قبض فيهما.

فلما احتضر صلى الله عليه وسلم اشتد به الأمر فقالت عائشة: (ما أغبط أحداً يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عنده قدح من ماء يدخل يده صلى الله عليه وسلم في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، يقول: اللهم أعني على سكرات الموت، قالت: وجعل يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات).

ولما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، قالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه، فقال لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم).

قالت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير، فلما نزل به الموت ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت وقال: اللهم الرفيق الأعلى، قالت: فعلمت أنه لا يختارنا).

وروي أنه لما بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً نزل عليه جبريل عليه السلام قال: (يا أحمد! إن الله قد أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً خاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك، فقال: أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، ثم أتاه في الثاني والثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت، فقال جبريل: يا أحمد! هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قبلك ولا بعدك، قال: ائذن له: فدخل ملك الموت فوقف بين يديه، فقال: يا رسول الله! أرسلني الله إليك وأمرني أن أطيعك، إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، قال: وتفعل يا ملك الموت، قال: بذلك أمرت أن أطيعك، فقال جبريل: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: فامض يا ملك الموت لما أمرت به، فقال جبريل عليه السلام: عليك السلام يا رسول الله! هذا آخر موطئٍ من الأرض، إنما كنت يا محمد حاجتي من الدنيا).

وفي ذلك اليوم الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم وقبل موته كشف الستر عن أصحابه وهم يصلون صلاة الصبح خلف أبي بكر، فكاد المسلمون أن يفتتنوا من فرحتهم برؤية نبيهم صلى الله عليه وسلم حين نظروا إلى وجهه وظنوا أنه يخرج للصلاة، فأشار إليهم أن مكانكم وأرخى الستر، وتوفي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وظن المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه، لما أصبح يوم الإثنين مفيقاً.

ولما علم المسلمون بوفاته صلى الله عليه وسلم منهم من اندهش ومنهم من خولط، ومنهم من أقعد ولم يستطع نهوضاً، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وبلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعاً حتى دخل بيت عائشة، والنبي صلى الله عليه وسلم مسجَّى، فكشف الثوب عن وجهه، وأكب عليه وقبَّل جبهته مراراً وهو يبكي ويقول: [وانبياه واخليلاه واصفياه، إنا لله وإنا إليه راجعون].

ثم قام ودخل المسجد وعمر يكلم الناس وهم مجتمعون، فتكلم أبو بكر وتشهَّد وحمد الله، فأقبل الناس على أبي بكر وتركوا عمر، فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:١٤٤].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.