للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا]

معاشر المؤمنين: ما منا إلا ويتمنى الاستقامة، وما فينا إلا ويود التوبة، ولكن قفوا هنا قليلاً، إن كثيراً من الناس من الرجال والنساء والشباب والفتيات، والذكور والإناث، والكبار والصغار يظنون أن الهداية والاستقامة والالتزام والتوبة تكون في لحظة على حين غرة، يصبح عاصياً فيمسي تائباً، أو يمسي عاصياً فيصبح تائباً، يظن بعضهم أن هناك لحظة ينقلب فيها الواحد من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن القطيعة إلى الصلة، ومن العقوق إلى البر، يظن البعض أن التوبة بزرار أو جهاز تنقلب حال الشخص حين الضغط عليه، لا والله -يا عباد الله- من كان ينتظر هذا الأمر لكي يتوب فما أبعد توبته! لكن التوبة -يا عباد الله- تكون بالمجاهدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩] الهداية ثمرة للمجاهدة، والمجاهدة مطلبٌ للصالحين؛ كي يثبتوا على صلاحهم، والمقصرين حتى يلتفتوا إلى تقصيرهم ويقلعوا عنه ويعودوا إلى الله، وللفاسقين حتى يجاهدوا نفوسهم، فيقلعون عن هذا الفسق، وعن هذا الإصرار.

لا بد من المجاهدة حتى تحصل التوبة، حتى تحصل الاستقامة، أتظنون لذة العبادة وحلاوة الطاعة وفخر الاستقامة يكون من دون مجاهدة؟ لا وايم والله، لا بد له من مجاهدة حقيقة، لا بد له من ندم على ما مضى، واستعداد لما بقي، لا بد له من قول الله جل وعلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] لا بد للتوبة من هذا، نريد أن نتوب من الغناء واللهو من دون أدنى مجاهدة لكف الآذان عن اللهو، لا.

لا بد من مجاهدة، وإذا ابتلي العبد ففي حال الابتلاء يعرض عليه أمران: الأول: أمر محبوبٌ إلى شهوات نفسه، مبغوضٌ مكروهٌ إلى الله ورسوله.

والثاني: مرضيٌ لله ولرسوله صعبٌ يحتاج إلى مجاهدة النفس عليه.

فيقف العبد بين هذين الحالين يدير المذياع، فيسمع غناء، يدير المسجل فيسمع الغناء ثم يبدأ صراع النفس هل يغلق هذا الباطل وينصرف إلى المعروف؟ هل ينصرف عن هذا اللهو ويعود إلى الذكر؟ يبقى لحظات من الصراع يجاهد نفسه، فمن كان صادق التوبة فإن قوة القلب وصدق المجاهدة يضغطان على الجارحة فتتحرك اليد لإقفال المذياع، أو اللهو، أو الباطل، أو المنكر، ثم تنصرف الجارحة إلى ما يرضي الله جل وعلا، فيسمع كلام الله، ويسمع ذكر الله، ويحقق صفة الإيمان في نفسه؛ ليخبت بذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:٢].

التوبة تحتاج إلى مجاهدة، تسمع منبه سيارة جليس من جلساء السوء وصديق من أصدقاء المعصية، تسمع صوت منبهه وأنت في بيتك وفي قلبك بداية من بدايات التوبة، في قلبك بداية من بدايات الندم، هل أخرج معه أم أنصرف عنه؟ هل أستجيب له أم أستجيب لله؟ هل أعصي الله أم أجلس في طاعة الله؟ هنا تبرز المجاهدة، جاهد نفسك على أن تنصرف عنه إلى ما يرضي ربك، وإذا بلغت مرحلةً أقوى من ذلك أن تفتح الباب وتقول له: إلى متى الغفلة؟ سمعت صوت منبهك إلى أين نذهب: إلى شلة ندير الورق إلى آخر الليل؟ هل تشهد الأنامل بالتسبيح؟ هل يشهد الورق بالسجود؟ هل تشهد الأرض بالذكر؟ هل تشهد السماء بالانحناء والركوع، أم تشهد بالغفلة، والسباب الشتيمة، والقطيعة والبغضاء، واللعنة والعداوة؟ إذا لم يتحقق ذلك، فإنك مهزومٌ في هذه الجولة، إما أن تكسب الجولة وإما أن تخرج مهزوماً، ويعلن الشيطان انتصاراً عليك، وتصفق الشياطين ضاحكةً غارقة في الضحك والسخرية منك يا بن آدم؛ لأن الله كرمك وما رضيت كرامة الله؛ لأن الله دعاك وانصرفت عن دعوة الله، وقال الشيطان: دعوته فاستجاب لي، فأحس الشيطان بنشوة وزهو النصر على هذا العبد الذي جاهد نفسه وخسر الجولة؛ لأن التوبة لم تكن صادقة، قال الشيطان لهذا المسكين: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:٢٢] ما كبلت يدك بالحديد فأخرجتك إلى جلساء السوء، ما جعلت القيد في عنقك وفي يدك وفي رجلك فجعلتك تسافر إلى الخارج، ما سحبتك بتلابيب جيبك حتى تقعد في اللهو والمعصية، إذاً ماذا فعلت أيها الشيطان بهذا الإنسان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:٢٢] يقول الشيطان: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:٢٢] إنما دعوتكم، زينت لكم، أحكمت الصورة في خيالكم، فكانت الاستجابة منكم.