للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرؤيا الصادقة وسببها]

الحمد لله منشئ السحاب، وهازم الأحزاب، ومنزل الكتاب، وخالق خلقه من تراب، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأثني عليه الخير كله، هو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام وقد ضل عنه الكثير، ومنَّ علينا بالتوحيد وقد غفل عنه الكثير، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل ما سألناه أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا لله تعالى حق التقوى، تمسكوا بدين الإسلام في الدقيق والجليل، واعلموا نعمة الله عليكم بهذا الدين الذي به اطمأنت نفوسكم، وأمنتم في أوطانكم، وتدفقت الخيرات إلى بلادكم، وانظروا إلى ما حولكم من الجنوب والشرق والشمال والغرب، يتطاحنون ويتقاتلون بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، جنبوا شرع ربنا واتخذوا قوانين الكفرة والملاحدة؛ فكان أن سلط الله عليهم عدواً من أنفسهم ومن بينهم، يتقاتلون ويتذابحون ويدمرون كل شيء بنوه بأيديهم، فتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ شذ في النار.

معاشر المؤمنين إن من الرؤيا ما يقع أولاً على ظاهره، ومنها ما يحتاج إلى تأويل، فما يحتاج إلى التأويل منها فينبغي أن يعرض على رجل صالح ماهر بتعبير الرؤيا، مفرق بين الأضغاث وغيرها، ويفرق بين طبقات الناس إذ أن فيهم من لا تصح له رؤيا، ومنهم من تصح له وتقع بإذن الله، يقول أحد علماء السلف: الرؤيا اكتشاف لا يحصل إلا بانقشاع الغشاوة عن القلب، فلذلك لا يوثق إلا برؤيا الصالح الصادق، ومن كثر كذبه لم تصدق رؤياه، ومن كثر فساده ومعاصيه أظلم قلبه فكان ما يراه أضغاث أحلام؛ ومن أجل ذلك استحب ألا ينام المسلم إلا متوضئاً طاهراً.

وقال بعض أهل التعبير: لكل أمم أصول لا تتغير، وأقيسة مطردة لا تضطرب إلا تعبير الرؤيا، فإنها تختلف باختلاف أحوال الناس وهيئاتهم وصناعاتهم ومراتبهم ومقاصدهم ومللهم ونحلهم وعاداتهم، فينبغي للمعبر أن يكون فطناً ذكياً ذا فراسة واطلاع.

ومما ينبغي أن يعلمه كل مسلم أنه يحرم الكذب في قص الرؤيا، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) وفي حديث آخر (إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا) فينبغي لمن رأى رؤيا صالحة ألا يحدث بها إلا عند شفيق ناصح يحسن تعبير الرؤيا وتأويلها، فإن رأى الذي ذكرت له الرؤيا خيراً فليقل: خيراً رأيت، ثم يعبرها.

وإن علم من الرؤيا مصيبة أو بلاءً فليقل: خيراً إن شاء الله وليصمت، فإن وجد خيراً ذكره وإن وجد خلاف ذلك قال: خيراً إن شاء الله، وجاء عن السلف الصالح -أيضاً- جملة من ذلك.

ومن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه على صفته صلى الله عليه وسلم المعروفة فقد رآه حقاً وصدقاً؛ لأن الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك عنه في الحديث (من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي).

ومن الناس من يفزع في منامه لرؤىً يراها، وسبب ذلك قلة ذكر الله وشدة الغفلة في اليقظة، والخوف من الخلق، وما أشد وقوع الكثير منا في هذا، فالكثير في غفلة عن ذكر الله حال دخولهم بيوتهم، وحال خروجهم من دورهم، وحال ركوبهم دوابهم، وحال دخولهم أعمالهم، إن من القليل النادر أن تسمع صوتاً يرتفع بذكر الله جل وعلا، ومن رفع صوته يذكر غيره التفتت إليه أعين الناس، لا ينكرونه، حاشا لله أن ينكر ذكر الله! وإنما قد استغربوا من قلة الذاكرين في هذا الزمان.

فاعلموا -يا عباد الله- أن شدة الغفلة والخوف من الخلائق والبعد عن ذكر الله مما يسبب أموراً مزعجة في المنام، نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا بذكره وطاعته، فينبغي لمن يفزع في منامه أن يحرص على قراءة ورده قبل نومه خاصة فاتحة الكتاب وآية الكرسي والمعوذات، وآخر سورة الحشر، وكذلك الأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يستحب للمسلم أن يقوله عند نومه وبعد استيقاظه، ومن شكا الأرق بعد ذلك -والأرق هو عدم النوم في الليل- فليقل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، ولم يبق إلا وجهك يا حي يا قيوم، اللهم اهد ليلي وأنم عيني، وليتبع ذلك بقراءة الآيات والأحاديث الواردة، وليتأكد أنه لن يقارب تمام هذه الأذكار إلا وقد غشي النوم أجفانه.

عباد الله الرؤى الصادقة كثيرة جداً، فرؤى الأنبياء حق ووحي لا شك فيها، وجاء عن السلف رؤىً وقعت وتحققت، وغيرهم كثير، ولو ذهبنا نستعرض جزءاً من ذلك لطال بنا الوقت.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:١٠٠] أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا بالتوبة النصوح، وأن يوفقنا لذكره جل وعلا.