للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شاب تأكله الطيور والسباع بعد استشهاده]

قال أحد قادة الإسلام: دعوت الناس إلى الجهاد في صلاة الجمعة ذات يوم -من القرون المتقدمة- فجاءت امرأة وطرقت علي الباب في الليل وقالت: أيها الأمير! دعوت الناس إلى الجهاد ولا مال عندي أتصدق به، فلم أجد إلا ظفيرتي هذه، فحلقت شعري، أريد أن تجعل منها لجاماً لفرسك في سبيل الله.

انظروا! يوم أن كانت الأمة أمة، كانت المرأة تعتقد أنها تصنع شيئاً، فما بالك بالشباب والرجال؟! قال القائد: فدعوت لها وأخذت ظفيرتها وجعلتها لجاماً لفرسي، قال: فلما نزلت المعركة إذ بي أجد فتىً حدثاً يافعاً قال: ووجدت معه قوساً ونبلاً، وما شد وتر القوس إلا سقط النبل في واحد من الروم، يقول: عجبت من هذا الشاب الذي يحسن الرماية وهو في هذا العمر.

ماذا حصل؟ قال: فأشغل الروم أمر هذا الفتى، فقد تسلط عليهم بالسهام وأصبح يقتلهم واحداً بعد الآخر، قال: فلعلهم اجتهدوا في تحديد موقعه أو مكمنه، ثم رموه بسهم سقط في قلبه، فخر الفتى ميتاً، قال: فأهمني أمره وترجلت عن فرسي، وجئت إليه ونزعت السهم من قلبه، ثم حملته شهيداً في المعركة، وتوجهت به ودفنته.

قال: ثم حملته على فرسي وكررت نحو القوم، وعدت متحيزاً -الفارس لا يجوز له أن يهرب، لكن يجوز له أن يتحيز ويلف يميناً ويساراً، ويتقهقر ويتقدم، كر وفر، هذا يجوز- يقول: فعدت متحيزاً، وإذ بي أجد الفتى قد لفظته الأرض -خرج من الأرض- قال: فعجبت لشأنه! قلت: لعلي لم أحسن دفنه أو أن شيئاً من السباع جرت ثيابه، فعدت وحفرت له قبراً مرة أخرى أعمق من الذي قبل ودفنته، قال: ثم حملت على العدو وعدت متحيزاً، فإذ بي أجد الفتى قد لفظته الأرض -خرج مرة أخرى- فقلت: أدفنه مرة ثالثة ولا أعود لدفنه مرة أخرى، المعركة أمامي ولا أستطيع أن أنشغل به أكثر من هذا.

دفنه المرة الثالثة فلما حمل على العدو، وجاء متحيزاً أو كاراً مرة أخرى إذا به يجد السباع والطيور تأكل من لحمه وعظمه وما بقي منها شيء، قال: فعجبت من شأنه، ومعي مزادته وما بقي من قوسه ونباله، يقول القائد: فلما انتهت المعركة أويت إلى داري وسألت الجند: من يعرف هذا الفتى وأين بيته؛ لكي أرسل ما بقي من متاعه ومزادته إلى أهله؟ فدلوني على بيته، وطرقت الباب فإذا بامرأة ترد علي، صوتها صوت تلك المرأة التي جاءت بظفيرتها وجعلتها لجاماً لفرسي، قلت لها: أهذا ولدك؟ قالت: نعم، أسألك بالله هل تقبله الله شهيداً؟ قال: إي والله.

قالت الأم: وهل دفنته أيها الأمير؟ قال: دفنته ولكن لفظته الأرض.

قالت: ثم دفنته؟ قال: ولفظته الأرض.

قالت: ثم دفنته؟ قال: فأكلته السباع والطير، قالت: الحمد لله الذي استجاب دعوته.

ولما همت بالانصراف قال: أسألك بالله يا أمة الله! ما شأن هذا الفتى فقد أعجبني أمره وشغلني شأنه؟ قالت: والله أيها الأمير! إن شأن هذا الفتى عجيب! كان في النهار لا ينفك عن رمي بنبل وسهم، وإذا جن الليل أحسن وضوءه، واجتهد في محرابه وهو يصلي ويقول: اللهم اقتلني شهيداً في سبيلك، واحشرني في حواصل الطير وبطون السباع، اللهم اقتلني شهيداً في سبيلك واحشرني يوم القيامة في حواصل الطير وبطون السباع.

فتلك دعوته، قال: لقد أجاب الله دعوته ورأيت السباع والطير كلٌّ قد نال من لحمه شيئاً.

طبعاً الشهيد لا ينال من آلام الموت كما ينال أحدكم من ألم القرصة حينما يذوقها.