للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انقسام الناس في النظر إلى المرأة إلى فريقين]

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلى هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة: الحديث عن التحديات التي تواجه المرأة وهي في واقعنا المعاصر كثيرة جداً، ولا أخال أنني سأحيط بها أو سأسردها عليكم فضلاً عن التفصيل فيها، ولكن قبل الولوج في صميمها أود أن أعرض مسائل: الأولى: إن كثيراً ينفرون من الحديث عن التحدي والتحديات، ولا يحبون أن يسمعوا نقداً للمجتمع أو الواقع، وهذا أمرٌ لا ينبغي أن يكون؛ لأننا حينما نتكلم عن التحدي في مجالاته أو في ظروفه وصوره فإننا لا نحب ولا نحسن ولا نتسلط بمجتمع ولا نعرض، ولكن الحديث يكون مستحضره خطرٌ داهم أو شرٌ قائم، أو لأخذ العبرة والعظة من مصيبة حلت لإهمالٍ أو تفريطٍ وقع منا، أو لأجل الدعوة إلى الإصلاح كلٌ بقدر واستطاعته.

التحديات التي تواجه المرأة كثيرةٌ جداً، وهي تحديات من الداخل وتحديات من الخارج.

لا يبلغ الأعداء من جاهلٍ ما يبلغ الجاهل من نفسه

ما كان لتلك التحديات أن تجد بين الصفوف مكانة، أو تجد بين البرادع مخيماً، إلا يوم أن وجدت لها بذرة القبول ودعا لها دعوة المحبة، وهيأ في النفوس لها موقعاً ومنزلاً، وحسبكم قول الله جل وعلا في شأن أولئك الأعداء الكفرة الذين يتمنون بالمجتمع كل مصيبة، ويتربصون بهم دوائر التفكك والانقسام، والهزيمة والتبعية، يقول الله جل وعلا: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:٨٩] وتأملوا هذه الآية: هل تظنون أن الذين يتمنون أن نكفر كما كفروا -إن كانوا يروننا دونهم- أنهم يتمنون أن نكون مثلهم، فنكون سواء فنرتفع من الحضيض إلى علو منزلتهم التي هم فيها كما يظنون؟! وإذا رأوا أننا أعلى منهم منزلة فيتمنون كفرنا حتى نكون سواء، فننزل من علو مقامنا إلى حضيض مقامهم، وهذا هو الظاهر البين.

إذاً: فالأعداء مهما بلغوا من الاكتشافات والاختراعات، ومهما هيئوا ألوان الترف وسبل الرفاهية ونافسوا في التمدن فإنهم لا يزالون يرون المسلمين أعلى منهم قدراً.

والسبب في رؤيتهم للمسلمين أنهم أعلى منهم قدراً أنهم يرون الأمة المسلمة لا تزال تتمسك بوحي رباني معصومٍ من الزيادة والتحريف والنقصان، فلا بد أن ينزلوا هذه الأمة المتمسكة بهذا الوحي إلى حضيض مساواتها بالكافرين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإطلاق سهام التفكك والبغضاء، والزهد في الوحي الذي أنزله الله جل وعلا، فالتحديات كثيرة من الداخل والخارج، وعذراً وعفواً من ذا يجمع بحر الكون في قطرة، ومن ذا يختزل حروف العداوة في ذرة، ولكن ما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى.

يكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يدعى بالنداء العالي

وأرغب -أيها الأحبة- أن يكون الحديث عن المرأة، الذي هو عن أمي وأمك، وأختي وأختك، وزوجتي وزوجتك، وابنتي وابنتك حتى نتحدث عن موضوع نتعايش معه، ونتكلم عن خطر يهدد كل واحدٍ منا، ونشمر لكي نذب عن أعراضنا وأنفسنا ومجتمعنا وأمتنا؛ لأن بعض المسلمين وفقهم الله حينما يسمعون حديثاً كهذا يظنون أن المعنيين بهذا قومٌ في الزهرة أو في زحل أو في المريخ أو عطارد، ونحن إنما نصلي على الميت الحاضر، ونتحدث عن واقعنا، وعن مجتمعنا، وعمن يعايشوننا ويساكنوننا ويخالطوننا، فحديثنا عنا وعمن حولنا، وفي البداية يخص هذا الحديث وسطٌ بين فريقين: فريقٌ يرى أن المرأة في مجتمعنا قد أدبرت وولت، وذابت وانحرفت، وسقطت وانتهت، ولا أمل في إصلاحها، والبقية الباقية في طريقها إلى الفساد، والبعض ربما يحمل نفساً متشائمة، ويغلق منافذ الأمل أو نوافذ العمل، ويصاب بالإحباط تجاه كل حركة تسعى إلى الإصلاح والتغيير.

وفريقٌ آخر يرى أن واقعنا أفضل واقعٍ يمكن أن يخطر على بال رجلٍ في هذه البشرية المعاصرة، وليس ذاك بصحيح، وليس هذا بحق (فمن قال: هلك الناس فهو أهلكُهم أو أهلكَهم) ومن قال: لا يمكن أن يوجد واقعٌ أفضل من هذا فذاك عين المداهنة والنفاق، إن في واقعنا من الخير الكثير الكثير، وفي واقعنا من الشر ما لا يعلمه إلا الله، وذاك ميزان العدل عرفناه من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول في صدر خطبته ومستهلها: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا).

فأخبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن للنفس شروراً، وأن في الأعمال سيئات، وذاك في زمنه فضلاً عن القرون التي تلت وجاءت عقب أو بعد القرون المفضلة، بل إن ما نحبه فيه الخير والشر، المال والولد من ذا يكرههما أو يبغضهما ومع ذلك يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:١٥] ويقول تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:١٤].

إذاً: فليس الخير في النفوس فضلاً عن المجتمعات والدول والأنظمة والمؤسسات والأجهزة، ليس الخير على إطلاقه وليس الشر على إطلاقه، فكل نفسٍ، وكل أسرة، وكل مجتمع، وكل نظام، وكل أمة، وكل دولة فيها خير وشر، بل قال صلى الله عليه وسلم فيما جاء في السنة أن الرجل إذا دنا بامرأة وضع يده على ناصيتها وقال: (اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه) فدل أن في الزوجة شراً كما أن فيها خيراً، فالمال فيه خيرٌ وشر، والزوجة فيها خير وشر، والولد فيه خيرٌ وشر، والنفس فيها خيرٌ وشر، فكذلك المجتمعات فيها خير وشر، فلنتأمل هذا جيداً.

أيها الأحبة: وإن التحديات التي تحيط بالمرأة المسلمة في واقعنا المعاصر هي جزءٌ من التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، تحدي المرأة والتحدي بالمرأة، ذلك محور من محاور التحدي الكبير الخطير الذي تواجه به أمة الإسلام في وقتٍ نعجب فيه من جلد الفساق والكفرة وضعف الثقات والأمناء، ذلك هو جزءٌ من التحدي العام في السياسة وفي الاقتصاد وفي التربية والإعلام وفي التعليم وفي مجالات شتى، فليس الحديث عن التحديات التي تواجه المرأة بمعزلٍ عن جملة التحديات التي تحاك وتدبر للأمة من قبل أعدائها في الخارج، أو المنافقين الذين يتربصون بها في الداخل.

وهذه التحديات تظهر في صور شتى، وتلبس لكل زمن لبوساً، ولكل حادثة ما يناسبها، وتنشط تارة، وتظهر تارة، وتصرح تارة، وتلمح تارة، وتقوى تارة، وتضعف تارات.