للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دلالات انقضاء الأعوام والأعمار]

المسألة الثانية: العام الهجري الجديد وما أدراك ما العمر الذي انقضى والعمر الذي بقي:

إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجلِ

ربما فرح البعض بدنو زواجه في العطلة، وربما فرح البعض بقرب ترقيته في السنة الهجرية الجديدة، وربما فرح البعض برتبة يعلقها بعد دورة عسكرية، ولكن نسينا جميعاً إلا من رحم الله أننا دنونا من المقابر أشهراً وأياماً، أو طوينا صفحة سنة كاملة شاهدة بما عملنا فيها من الحسنات والسيئات، ولكننا في هذا الدين العظيم قد أكرمنا الله بالخلاص من عقد النصارى الذين يظلون يبكون عقد الماضي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا) يعني دع ما مضى وأتبع السيئة الحسنة تمحها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:١١٤].

أما أن يظل البعض يندب الماضي، ويخاف من المستقبل، ويضيع الحاضر فليس هذا من دين الله في شيء:

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسانٍ وأنت حميدُ

إذاً أيها الأحبة لا بد أن نتأمل هذا العام الذي انقضى، ونعلم أن انقضاء العام دال على انقضاء كل شيء: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧] إن انقضاء العام دليل على انقضاء الأعمار، وانقضاء الممالك، وانقضاء الملذات، وتبدل الأحوال، اليوم يبدأ ثم ينقضي، والساعة تبدأ ثم تنقضي، واللقاء يبدأ ثم ينقضي، والرحلة تبدأ ثم تنقضي، والحياة تبدأ ثم تنقضي، لكن تمر الحياة على أهل الرخاء والسعادة والنعيم والحبور في لذة، كأنما تصبح الأيام ساعات، والساعات دقائق، وتمر الأيام والحياة على أهل الشقاء والبلاء الساعة كاليوم، واليوم كأسبوع، الأسبوع كشهر، والشهر كسنة:

مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيامُ

ثم انثنت أيام هجر بعدها فكأنها من طولها أعوامُ

ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلامُ

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:٩٨] إن من يقرأ كتاب الله، ويتأمل ما ذكره الله في شأن الأمم التي ملكت وسادت، ثم أهلكها الله وبادت: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:٦ - ١٤] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:١٣].

أين الملوك ذوي التيجان من يمنٍ وأين منهم أكيال وتيجان

وأين ما ساده شداد في إرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ

أتى على القوم أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا

هكذا انقضت السنة، وقطعنا من عمرنا ورقة شاملة كما تقطع ورقة من التقويم، وقد ولت مدبرة ولا تعلم ما الذي كتب لك فيها، ولكن ما الأحسن في الخاتمة؟! فإنه حري أن يستدرك ما فات لأن الله عز وجل قال في شأن التائبين: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٧٠] وبين أيدينا وبالتحديد الإثنين القادم يوم عاشوراء من نعم الله؛ أننا نختم العام بعبادة تكفر ذنوب العام ونبدؤه بعبادة تكفر ذنوب العام، لما سئل صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء فقال: (يكفر السنة الماضية) نعمة عظيمة أن الله شرع لنا في بداية أعوامنا وفي نهايتها وفي أواسطها، وفي أيامنا وأسابيعنا من الفرص الكفيلة بأن تغسل الخطايا، وترفع الحوب والرزايا، وذلك من عظيم فضل الله ورحمته بعباده، إنه جواد غفور حليم رحيم كريم.