للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سنة الله في هلاك الأمم]

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله نحمده على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، الحمد لله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم، الحمد لله الذي الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، الحمد لله الأول والآخر والظاهر والباطن والمقدم والمؤخر، وهو على كل شيء قدير.

نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وحديثنا معكم اليوم عن الوهن الذي أصاب أمة المسلمين، وهو السلاح الذي يمكن أن يكون سبباً في هلاكها، وما سواها من الأسلحة والعوامل الخارجية، سواء من التهديد بالقتل أو التدمير أو الاجتياح، أو غير ذلك فإن هذا لا يمكن أن يكون سبباً لهلاك الأمة، وما ذاك إلا لاعتقادنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين، وذكر مما أعطاه ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) فلا يمكن أن تهلك أمة الإسلام بعدو يتسلط عليها، فيستبيح بيضتها، ويسرق أموالها وخيراتها ومدخراتها جملة واحدة أبداً، ما لم يتسلط المسلمون بعضهم على بعض، وما لم تتسلط نفوس المسلمين على ذواتهم، فإن النفس إذا تسلطت على صاحبها كان ذلك بادية الهلاك والوبال والدمار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلكم هو أخطر أمر أن تتسلط نفسك عليك، وأن تكون نفسك هي سبب مصيبتك، وأن يكون سعيك هو الذي يقودك إلى هاوية ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

إذا لم يحصل استعانة المسلم بربه، واستقامته علىأمر ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن كل جهد وعون وعمل يكون سبباً في هلاك صاحبه، ولا عجب في ذلك، فإن سنة الله لا تحابي أحداً، وإن سنن الله في الكون لا تتعطل ولا تتغير: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦].

وقول الله جل علا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:١٩] إن البلاء والدمار والهلاك والمصيبة، تكون بداية من النفس، إن كان الإنسان تسلط على نفسه بالذنوب والمعاصي، وتسلطت الأمة على مجتمعاتها وبلدانها بالفواحش والمنكرات، عند ذلك لا يبالي الله جل وعلا بأي وادٍ هلكت هذه الأمة، وليست هناك أمة من الأمم معصومة، أو أن بينها وبين الله عهد ألا تُهلك وألا تدمر، فإن لم يقع الهلاك بسبب مصيبة أو قوة بشرية، نزل الهلاك على أمة عصت الله من السماء، ألم يقل الله جل وعلا: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:٤١ - ٤٢]؟ ألم يقل الله جل وعلا: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات:٤٦]؟ سلط الله عليهم في معرض ذكره للأمم التي أهلكها بالعذاب، فلا ينبغي أن نظن أن الأمم إن لم تصب بمصيبة عدوان أو اجتياح خارجي، أو من جوار، أنها سلمت من البلاء والهوى والفتك والعقوبة، إذا أن البلاء إنما يوجهه الله جل وعلا بأسباب، فقد يكون البلاء بسبب تسلط أمة على أمة، وقد يكون في صورة بلاء ينزل من السماء، أو ينفجر من الأرض، أو في صورة داهية تجعل الأمة شذر مذر وتمزق كل ممزق.

إن عقول كثير من البشر انحصرت في تصور المصائب، وأنواع البلاء، في عدوان بشري أو في قوة غاشمة مسلحة فتاكة مدمرة، تتسلط على أمة أخرى وليس هذا كل البلاء أو المصيبة، بل إن الله جل وعلا لا يعلم جنوده إلا هو {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:٣١] هي ذكرى للأمة أن تعتبر وأن تتعظ، وأن تعلم أن البلاء وإن تخلف على أيدي البشر، فقد يتحقق بمصيبة تخرج من الأرض، أو ببلية تنزل من السماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.