للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الله القدير الرقيب!]

العالم وما فيه من سكون وحركة أثر لقدرة الله سبحانه، فإذا رأيت البذور تشق التربة وتنمو رويداً رويداً لتستوي على سوقها فذلك بقدرة الله، وإذا رأيت الأمواج تلطم الشُطآن رائحة غادية لا تهدأ حتى تثور فذلك بقدرة الله، وإذا رأيت القاطرات والطائرات تنتهب الفضاء وتطوي الأبعاد وتحمل الأثقال فذاك بقدرة الله، إن كثيراً من الناس يتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الطائرة، ويتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الغواصة والباخرة، ويتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الدبابة والسيارة، ولكنهم لا يعجبون من الخالق الذي خلق هذه العقول التي اكتشفت ما أوجده الله، وهذه العقول ما أنتجت شيئاً من عدم ولكن الله شاء لها أن تكتشف ما أوجده الله وأودعه في هذا الكون.

إذا رأيت البشر يموج بعضهم في بعض، ينفعلون بالحب والبغض والفرح والحزن، ينطلقون عاملين أو يهدءون نائمين فذلك بقدرة الله، وسواء شعرت أم لم تشعر فنبضات قلبك في حناياك، وسريان دمك في عروقك، وكمون الحس في أعصابك، وتجدد الحياة في خلاياك، وانسكاب الإفرازات من غددك، كل ذلك بقدرة الله، لا تحسبن شيئاً في الكون يقدر أو ينهض أو يقوم أو يسير بنفسه، بل كل ذلك بالله وبأمر الله ومن الله وإلى الله، فكما أن الله أبدعه أولاً من عدم فقد أودع فيه من أسرار قدرته وآثارها ما يدل عليه سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:٤٤].

الناس حينما يمشون في نفق بين الجبال يقولون: عجباً لهذه العقول التي استطاعت أن تفتت هذه الصخور، وإذا رأوا قطعة من صخر قد أزيحت عن الطريق قالوا: عجباً لهذه الآلات وصانعيها والمعدات وعامليها كيف زحزحت أطراف الجبال عن الأرض، ولكنهم ينسون أن الله عز وجل قال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:١٠٥ - ١٠٧] {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:٨٨].

إنهم يعجبون يوم أن يروا صخرة أزيحت عن الطريق أو نفقاً شق في جبل، لكنهم لا يعجبون في قول الله عز وجل: {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:١٠] ولا يعجبون من قول الله عز وجل: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:٩].

نعم أيها الأحبة: إننا لنعجب من أمر يسير ثم نضل أو نذهل أو نغفل أو نتغافل عن أمر جليل، إن ثرية من الثريات التي تعلق في أسقف القصور أو الصالات الكبيرة بلغ من طولها وعرضها وضيائها مبلغاً وصفه الواصفون، وتحدث عنه المتحدثون، وإذا بالقنوات الفضائية والجرائد والمجلات والإذاعات ورجال الإعلام يتحدثون عن هذه الغريبة وهذه العجيبة، والشمس تشرق كل صباح عليهم تضيء الدنيا جميعاً، ثم تغيب ويبزغ قمر يطل على الكون كله فقلَّ أن ترى من يتدبر ويتفكر.

يدخل بعضهم ساحة أو صالة في قصر فيراها طويلة عريضة ليس فيها عمد، أو يرى قبة واحدة ليس بها أعمدة فيتحدث ويحدث الناس ويعجب من طول هذه القاعة وعرضها بلا عمد، ويعجب ويستغرب من استدارة هذه القبة بلا أعمدة، وقد نسي أن الله عز وجل رفع السماوات بغير عمد ترونها، فأي هذه أولى وأحق بالتدبر والتفكر.

إن الواحد يقف في مكتب من المكاتب أمام جهاز الحاسوب فيسأله هذا الموظف ما اسمك أو أعطني معلومة عنك إن رقماً أو اسماً أو اسم أم أو اسم أب ثم يودع اسمك أو رقمك في جهاز الحاسوب أو ما يسمى بالكمبيوتر، ثم يخرج عنك معلومات كاملة عن ولادتك ومنشأك ووظيفتك وراتبك وزواجك وطلاقك وعدد أولادك، بل هذا الجهاز يخبرك عن أسماء وآباء ورواتب وأحوال وأبناء ووفيات وأموات ومواليد مدينة بل دولة من الدول ثم تعجب وتقول: حاسب بهذا المقدار وشاشة بهذا الحجم تسرع وتعطينا هذه الأخبار، وتقدم هذه المعلومات، أي عجبٍ نرى، أي دهشة نحن فيها، ولكن الكثير ينسى أو يتناسى أو يجهل قول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧] يعجبون من الحاسب إذا قدم معلومات عن خمسة ملايين نسمة، لكنهم لا يتدبرون فيما جعله الله في الصحف والسجلات يوم القيامة، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩].

يعجب أحدهم ويقول: عجباً لهم لا ينسون، لا يغفلون، لا يفوت عليهم شيء، أراد أن ينقل استمارة سيارته، أراد أن يجدد رخصته، أراد أن ينقل كفالة عامله، فلما وقف عند الحاسب قيل له عليك مخالفة، وعليك غرامة، وعليك رسوم، وعليك كذا وكذا، فيعجب منهم كيف جمعوا هذه المعلومات وكيف أحصوها ولم ينسوها، وقد جهل أو نسي أن الله عز وجل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم:٦٤] كل ذلك {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:٥٢].