للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حاجة العبد إلى الانكسار أمام ربه]

أيها الأحبة: إن عظمة الله لا يحدها لسان ولا يسطرها قلم، ولا يحويها قرص ولا ورق وقمطر، إنها عظمة تعجز الألسنة عن وصفها، وتعجز الأقلام عن كتابتها، وتعجز الأسفار أن تحويها، ولكن الله عز وجل بما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلمنا أن ندعو، وأن نتملق، وأن نخضع، وأن نسبح الله عز وجل لنقول: سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان:٢٧] لو كل شجرة على وجه الأرض، لو كل شجرة تراها في طريقك في الغابات في أنحاء الدنيا، لو أن كل شجرة أقلام، ولو أن كل بحر حبراً فأخذنا نكتب بهذه الأقلام من مداد هذه البحار لنصف ولنحيط قدرته وعظمته وما يليق به لانتهت هذه الأقلام ولجفت هذه البحار ولم نبلغ شيئاً من بيان عظمة الله وعزته وقدرته {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:٢٧].

نعم أيها الأحبة: إننا لا نحصي ثناءً على الله ولا نحصي على الله أسمائه الحسنى، ولا نحصي على الله صفاته العلا، إنا نقول: اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، وما علمنا هو قليل من كثير وما أوتينا من العلم إلا قليلاً.

إذا أدركنا هذا -أيها الأحبة- زدنا يقيناً وشعوراً بأننا خلق حقير في مقابل عظمة مطلقة لا متناهية، وهي عظمة الله عز وجل، فأنى لعبد أن يصارع أو يكابر أو يدابر، أو يتكبر أو يصعر أو يتجبر ليعرض عن طاعة الله عز وجل.

عجباً لنا معاشر الخلق من أي شيء خلقنا وما الذي نحمله في أجوافنا؟ أليست أعيننا تحمل القذى؟ أليست أنوفنا تحمل المخاط؟ أليست آذاننا تحمل ما تعلمون؟ أليس في أجوافنا البول والغائط؟ أليس في مغابننا من الروائح ما يجل المسجد عن ذكره ووصفه؟ عجباً لنا وقد خلقنا من ماء مهين {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:٥ - ٧] {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:٢٠ - ٢٣].

أنى لهذا الإنسان الضعيف المسكين الذي هو من أصل مهين أن يتجبر أو يعرض عن طاعة الله، إن حق كل عبد من عباد الله، والواجب عليه أن يعرف مقدار ذله وحقارته وصغره أمام عظمة الله عز وجل المطلقة التي لا يحدها حد أبداً؛ ومن أدرك ذلك فإن هذا من أعظم أبواب الإقبال على الله عز وجل، أن تعلم أنك إن أطعت فإنما تطيع من يستحق الطاعة، وإن عبدت فإنما تعبد من يستحق العبادة وحده لا شريك له، وإن أذنبت فليس بحقيق لك ولا يجوز لك أن تصر على الذنب وأن تمعن في المعصية، بل واجبك أن تنكسر وأن تفر من الله إلى الله، وأن تهرب من سخط الله إلى رحمة الله، ترجو حلمه وستره ومغفرته.

نعم أيها الأحبة: من أدرك هذا فإنه يزيده بربه إيماناً، ويزيده لخالقه طاعة وانقياداً لوجهه سبحانه، أوليس الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه الإمام مسلم.

نعم أيها الأحبة: إننا بحاجة إلى أن نتفكر ونتدبر كم من الناس ركب سيارة فخمة فنسي أنه خلق من ماء مهين، وكم من الناس مدح بقصيدة فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس نسب إلى قبيلة وإلى شرف وحسب ونسب فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس علق من الرتب ومن النياشين فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس جمع من الأموال والأرصدة فنسي أنه من ماء مهين {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٦ - ٨] {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦].