للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمن على الأموال لا يقوم إلا بوجود السلطان]

أيها الأحبة: وحينما يوجد الأمن فالناس يأمنون على دينهم وأنفسهم ودمائهم، ويأمنون على أموالهم، ولأجل ذلك حرم الله السرقة، وجعل حد السارق أن تقطع يده، يقول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:٣٨] تلك اليد العابثة، تلك اليد المختلسة التي فتحت باباً، أو حفرت جداراً لابد من قطعها، لا بد أن يأمن الناس على أموالهم وأمتعتهم، وحينما لا يوجد إمام ولا حاكم، وحينما تضطرب الأمور فلا تدري أمةٌ هل تدافع أعداءها على حدودها في الخارج أم تحفظ أمنها في الداخل؟ من الذي يقطع يد السارق؟ من الذي يقيم حد الحرابة؟ أيها الأحبة: هذا من الأمور التي ينبغي أن يفهمها الكبار والصغار والشباب خاصة، وجيل الصحوة على وجه الأخص، حتى نحفظ المجتمع ونبني أسسه، ونقيم جدرانه بطريقةٍ تحفظ كيانه، ولا تهدم بأي حالٍ من الأحوال أركانه.

أيها الأحبة: إن مسألة الأمن على الأموال مسألة مهمة، نعم.

في القرآن حد السرقة، وفي الحديث حدودٌ أخرى، لكن إذا لم يوجد إمامٌ يقيمها ويقوم بها فمن ذا الذي يقيمها؟ من ذا الذي يحكمها؟ إن القرآن موجود في كل الدول العربية والكافرة والإسلامية وغير الإسلامية، لكن من الذي يقتل القاتل؟ من الذي يقطع يد السارق؟ من الذي يقيم حد الحرابة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:٣٣] من الذي يقوم بهذه الحدود؟ لا يظن ظانٌ أو يتوهم متوهمٌ أن ذلك لا يكون إلا في أمة لا منكر فيها، لا كبيرة فيها، لا معصية فيها، بل إن هذا كله يقام بحمدٍ من الله ومنة على الرغم من وجود بعض المنكرات، والكبائر والمعاصي شأنها أن يواجهها العلماء والولاة والدعاة بالإنكار وتحذير الناس منها، حتى لا يقولن قائلٌ: هذا كلامٌ جميل في غير محله، إذ أن ذلك لا يكون إلا في مجتمعٍ معصوم، أو في مجتمعٍ لا توجد فيه الكبائر والصغائر، لا وألف لا.

من خللٍ بالفهم أُتينا، من انتكاسٍ بالمفاهيم أُتينا، وإذا اختل الأمن فلا أمن على دينٍ أو معتقدٍ أو مالٍ أو نفسٍ ولا مالٍ أيضاً، لا أمن على الأموال لو اضطربت أحوال الناس في أمنهم، افترض -جدلاً- أن أحوال الناس في يومٍ من الأيام اختلت فجاء غاشمٌ وضالٌ وأحرق سجلاتٍ جمعت وثائق الناس وأملاكها، أصبح الناس يملكون وثائق لا قيمة لها، إذا لم يوجد لدى الوالي والسلطان أو نواب الإمام ما يصدق توثيق هذه الوثائق والصكوك التي في أيديهم.

لو اختل الأمن لجاءك من يخرجك غداً من بيتك بصكٍ عليه ختمٌ مزور، وقال: هذا بيتي، فإذا ذهبت لتنازعه أو تحاكمه أو تجادله ما وجدت سجلاً ترجع إليه لتعرف أن ذلك لك أو له أو أن هذا أصليٌ أو مزور.

ولذا جاءت الشريعة مع العناية بالأمن الديني، وإقامة الأمن في النفوس قبل إقامته على الأرض والمباني، جاءت الشريعة بحفظ حقوق العباد، لا يظن أحد أن شأن الأموال هين، الأموال من غَلَّها جاء يوم القيامة بما غل، من اختلس من بيت المال جاء يوم القيامة بما اختلس، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتينا يوم القيامة وعلى كتفه شاة تيعر، أو بقرةٌ لها خوار، أو بعيرٌ له رغاء، من غل يأتي بما غل يوم القيامة) أرض سجادة بساط سيارة قليل كثير، خذ واستكثر مما شئت، إنما الحساب بين يدي رب العالمين، يوم تبسط السجلات والصحائف ويوضع كتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] الأموال ليست هينة، لأجل ذلك افترض الله فيها الزكاة، وأثنى الله على الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، وأثنى الله على من تصدق ولم يتبع صدقته مناً ولا أذى، وجاءت الآيات بحفظ الحقوق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:٢٨٢] إذا قرأت في المحكمة لوحةً تقول: كُتاب العدل، أو كاتب العدل، فذلك تنفيذٌ لهذا المضمون: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:٢٨٢] آياتٍ بينات في التوثيق، في الكتابة، ولا يأب الشهداء في الشهادة، سرهم: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:٢٨٣].

أيها الأحبة: شأن الأموال عظيم، فإذا اختل الأمن فما تدري أين سيكون مالك، في بيت فلان أو علان، أو عند ظالمٍ أو لصٍ أو قاطع طريق.

أيها الأحبة: لو اختل الأمن، من الذي يحفظ حقوق الناس؟ من الذي يرد للناس أموالهم؟ من الذي ينصف المظلوم من الظالم؟ من الذي يرد المغصوب إلى صاحبه، ويردع الغاصب عن أموال الناس؟ ولو اختل الأمن لنشرت وأبيحت وظهرت وروجت ألوانٌ من الأمور التي تضلل على العقول والأموال.

إننا هنا نجوب هذه المدينة، ونجوب هذه الجزيرة، ما رأينا -بحمد الله- دكاناً يباع فيه الخمر، وما رأينا حانوتاً يباع فيه ما يسمى بالشراب الروحي، وما رأينا حانةً أو ماخوراً للدعارة، نعم.

يوجد من يشرب الخمر سراً متستراً: (من رأى منكم منكراً) إنما الأمة محاسبةٌ على ما رأت، محاسبةٌ على ما ظهر، محاسبةٌ على ما فشا، أما من عصى الله سراً بينه وبين نفسه لا يعلم الناس به فذلك ذنبه على أم رأسه؛ لأن المعصية إذا اختص بها صاحبها نزل البلاء على أم رأسه، ولكن إذا ظهرت عم البلاء والشؤم بها من حولها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥].