للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إقامة الحدود حفظ لأمن الأمة]

إن الله جل وعلا قد جعل في هذا القرآن وعلَّق برقبة الإمام تحكيمه في كل أمرٍ ومن بين هذه الأمور أن تحفظ الأنساب وأن تقام الحدود على الزناة، وعلى من تعدى على بيوت الناس وعوراتهم وأستارهم، قال جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢] حرم الله جل وعلا الطريق الذي يوصل إلى ذلك، فقال: (ولا تقربوا) وشرع أن يجلد الزاني إن كان بكراً ويُغرب، وشرع المحصن أن يرجم بالحجارة حتى يموت، ونفَّذ صلى الله عليه وسلم حد الرجم بنفسه على مشهدٍ من الصحابة وقد تعجبوا من هذا ولله فيه حكمة، ولعل منها حتى لا يقولن قائلٌ: أيرجم حيٌ بالحجارة حتى الموت؟ هذا من باب التخويف، لكنه وإن تصور عقلاً فإنه ممتنعٌ فعلاً،

الجواب

لا.

بل لقد فعله صلى الله عليه وسلم، وتعرفون قصة المرأة التي جاءت قالت: (يا رسول الله! إني حبلى من الزنا فطهرني، فأعرض عنها، فأقبلت عليه من كل جهة، قال: اذهبي حتى تضعي جنينكِ، فجاءت بالجنين، قالت: وضعت فطهرني، فقال: اذهبي حتى تفطميه -تعريضٌ لها أن تستر على نفسها، وأن تولي ولا تعود- فجاءت وفي فم الصغير الرضيع كسرة خبزٍ دلالة على أنه استغنى بالطعام عن الرضاع، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم وليدها إلى أحد الصحابة يكفله، وأُمر بها فشدت عليها ثيابها وحفرت لها حفرة وجمعت الحجارة فرجمت رضي الله عنها -فلما نال أحد الصحابة بكلمةٍ يوم أن طاش شيءٌٌ من مخها أو دماغ رأسها على ثوبه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.

لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) شهادة كرامة إيمان ودرجة عالية يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من السماء، يبشرها النبي أن الله قد تاب عليها، الله أكبر! بل ليست توبةً بحجم ذنبها، بل بحجم ذنب أهل المدينة كلهم جميعاً.

ومثل ذلك فعل بـ ماعز رضي الله عنه لما رجم بعد أن أعرض النبي عنه صلى الله عليه وسلم يردده: لعلك قبلت، لعلك فاخذت، لعلك مسست، وما زال ماعز رضي الله عنه يردد بكل حرقةٍ وشوقٍ إلى أن يطهر بدنه.

قال ابن القيم: ولله حكمة أن البدن الذي تلذذ بجميع أجزائه حال المعصية -فإن العقوبة من جنس العمل- أن يقع العذاب على سائر أجزاء البدن.

والله عليم حكيم، وكان من شأن توبته ما كان.

إذاً، جاءت الشريعة بهذا، وقبل سنين ليست قصيرة في هذا العصر ربما قبل ثلاثين سنة تزيد قليلاً، كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز قاضياً، وجيء بامرأةٍ مؤمنةٍ طاهرة تائبة معترفةً بما حصل منها، ولما ثبت عليها الحد الشرعي جيء بها ووقف الشيخ متع الله به، أو وقف والناس يرمونها بالحجارة، ثم مكث متع الله به ساعةً يدعو لها، يقول لي؛ هذا رجلٌ كبيرٌ في السن ممن يعرفون سماحة الشيخ، قال: كانوا يرجمونها والشيخ يدعو لها بالمغفرة والتوبة ويدعو لها بالجنة، ولما حملت مكث متع الله به وجمعنا به في الجنة وغفر له، مكث يدعو لها حتى تفرق الناس ولا زال يدعو لها، حتى قال بعض من له علاقة بها: لفرحتنا بدعاء الشيخ لها على ما كان من إقبالها، وبذلها نفسها لله كان شيئاً كثيراً عظيماً.

أيها الأحبة: نعود إلى أصل موضوعنا، لو اختل الأمن لا تسأل عن حال الناس في باب الزنا، وأنتم ترون مع تعدد وسائل الاتصال والاختلاط، فيا دعاة الاختلاط! والله لو خلي بينكم وبين ما تشتهون في هذا المجتمع لما تركتم صغيرةً ولا كبيرةً إلا عملتموها ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيضاً مما يضمن هذا الأمن ألا يتعدى أحدٌ ولو بكلمة على آخر، فمن قذف مؤمنةً أو مؤمناً فعليه حد القذف: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:٢٣] وقال صلى الله عليه وسلم الله: (اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات).

أيها الأحبة: ومن ذا الذي يمنع أحداً من أن يظلم أحداً أو يضربه أو يمد يده عليه ولو بلطمةٍ أو لكمةٍ أو قليلٍ أو كثير، جاء الوازع في النفوس قبل القانون والنظام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه.

ومع ذلك فإن من سبك أو شتمك فأثبت هذا ببينة -بشاهدي عدل- ثم عليك بالمحكمة المستعجلة إن أبيت إلا أن يقام عليه العقوبة الشرعية ولم ترغب في العفو عنه، أما إن رغبت أن تكون من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فالله يحب المحسنين، وإن رغبت أن تتمثل بقول الله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] فلك ذلك، وأنت حينئذٍ منعمٌ متفضلٌ على هذا بذلك، لقد حرم الله هذا الظلم في كل قليلٍ أو كثيرٍ أو قطميرٍ أو صغير، بل إن الله جل وعلا قال كما في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، (والظلم ظلمات يوم القيامة) كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري عن ابن عمر، بل نهى الحكام والولاة والأمراء ومن تولى سلطةً أن يظلم: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) أخرجه البخاري ومسلم.

هذا الشرع العظيم قد منع الظلم من كل صغيرٍ وكبير، ولو حصل من أحدٍ ظلماً، لو حصل من الوالي أو الأمير أو الحاكم ظلماً فإن ذلك لا يسوغ الخروج عليه، ولا يأذن بخلع بيعته، ولا تأليب الناس ضده، ولا جمع السلاح لحربه، ولا استباحة عرضه، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: (أدوا الذي لهم وسلوا الله الذي لكم).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.