للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رحيل أبي بكر الصديق]

رحيل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والحق أن نتحدث قبله عن رحيل محمد صلى الله عليه وسلم:

لو كانت الأعمار تبقى لواحدٍ رأيت رسول الله حياً مخلداً

ولكن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قضيةٌ كاملة، مسألة كاملة، فصولٍ كاملة، أمورٌ كاملة، موعظة تامة، لا يسعها أن نضمنها وسط هذه الكلمة أو المحاضرة، ولعل الله أن ييسر بلقاءٍ نسمع منكم أو نستمع من أحد إخواننا كلاماً عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها من العبر، ومن أجمل السير، ومن أجل الخبر ما يتدكدك له الصخر.

هذا أبو بكر الصديق، صورةٌ من رحيله رضوان الله عليه: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الإثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان ذلك اليوم شديد البرودة، فأصابت أبا بكر الحمى، فحمي خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان أبو بكر يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، والناس يدخلون على خليفتهم وإمامهم، يدخلون على صاحب رسول الله، يدخلون على خليفة رسول الله، يعودونه في مرضه، وهو في كل يومٍ أثقل من الذي قبله، فلما اشتد به الأمر قال لـ عائشة وقد كانت تمرضه مرض موته: [أي يومٍ هذا يا عائشة؟! قالت: يوم الإثنين، قال: فأي يومٍ قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -الله أكبر يريد السنة حتى في الوفاة، حتى في اليوم الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم- قال: في أي يومٍ قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: قبض يوم الإثنين، قال: فإني أرجو ما بيني وبين الليل- يعني: لا أدري لعلي ألقى الله، أو أرجو أن ألقى الله في هذا اليوم فأموت في اليوم الذي مات فيه حبيبي وصاحبي صلى الله عليه وسلم- وعندما اقترب موته رضي الله عنه دعا أبو بكر رضي الله عنه عائشة الحَصَان الرزان أم المؤمنين رضي الله عنها، فأوصاها قائلاً: يا بنية! إنا وُلينا أمر المسلمين فلم نأخذ ديناراً ولا درهماً، ولكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من فيء المسلمين قليلاً ولا كثيراً إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا متُ فابعثي بها إلى عمر، وانظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبغ فيها، والقطيفة التي كنا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا نلي أمر المسلمين، فإذا مت -يا عائشة - فردي كل ذلك إلى عمر] فلما مات أبو بكر أرسلت عائشة ما عندهم من مالٍ ومتاع إلى عمر، فلما رأى عمر بن الخطاب ذلك كله انفجر باكياً وأخضل الدمع لحيته، وقال: رحمك الله يا أبا بكر! رحمك الله يا أبا بكر! رحمك الله يا أبا بكر! لقد أتعبت من جاء بعدك، وكانت عائشة رضي الله عنها عند رأس أبيها أبي بكر رضي الله عنه وهو يحتضر وتتمثل بهذا البيت:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي هكذا يا بنية! ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] ثم قال أبو بكر: إذا أنا مت فاغسلي أخلاقي -يعني: ثيابي الخلقة- فاجعليها أكفاناً لي، فقالت عائشة: يا أبتاه! قد رزق الله وأحسن وأعطى خيراً، نكفنك بجديد، فقال: إن الحي أحوج إلى هذا مني، يصون نفسه، إن الحي أحوج من الميت، إنما يصير إلى الصديد وإلى البلى.

وتوفي أبو بكر رضي الله عنه يوم الإثنين ليلة الثلاثاء، وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ عمره عمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ودفن جوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ما أجمل هذا الرحيل! وما أجمل هذا الفراق! وما أجمل هذا الإعداد! وما أطيب هذا الاستعداد! نفوسٌ أيقنت بالموت فاستعدت له.