للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رحيل عمر بن الخطاب]

هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيلٌ في عبادة رحيلٌ في صلاة رحيلٌ في سجودٍ وخشوعٍ وركوع، لما طعن عمر رضي الله عنه في صلاة الفجر وهو يؤم المسلمين طعنه أبو لؤلؤة المجوسي حمل عمر رضي الله عنه إلى داره، فقال: الصلاة -نعم.

لا حظ لامرئٍ في الإسلام أضاع الصلاة، فصلى والجرح يثعب دماً، فجاء الصحابة بطبيبٍ يداويه، فسقاه لبناً فخرج اللبن أبيضاً من جرحه، فقال الطبيب: لا أراك إلا مودعاً، فأوصِ إن كنت موصياً، وافعل ما كنت فاعلاً، فقالت أم كلثوم: وا عمراه، وكان معها نسوةً فبكين معها، وارتج البيت بكاءً، فقال عمر: والله لو أن لي ما على الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع.

رحيلٌ في الصلاة، ومع ذلك يخشى من هول المطلع، ومن سوء المفزع، ومن عاقبة الأمر، يخشى من إقباله على الله، وهو عمر الذي بشر بالجنة، عمر الذي ما سلك وادياً إلا سلك الشيطان وادياً آخر، عمر الذي فتح الله به البلدان، ومصر به الأمصار، ونشر به الإسلام، عمر الذي نزل القرآن والوحي موافقاً لقوله ولرأيه، يقول: [والله لو أن لي ما على الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع]، فكان عمر وهو يحتضر ينادي ولده عبد الله، فقال: [ادن يا عبد الله! اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل: عمر بن الخطاب يقرأ عليك السلام، ولا تقولن: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير، يقول: قل لها: عمر يستأذن ولا تقل له: أمير المؤمنين يستأذن، قال: ثم سلها أن أدفن مع صاحبيَّ -يعني: مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر - قالت عائشة: رضي الله عنها لما جاءها عبد الله بن عمر فطرق الباب ودخل عليها، فقال: يا أم المؤمنين! يا أمه! إن عمر بن الخطاب يقرئك السلام، ويقول: إن أذنت لي أدفن مع صاحبيَّ، فقالت عائشة رضي الله عنها: كنت أريده لنفسي -كانت تريد أن تدفن بجوار زوجها، بجوار نبيها، بجوار حبيبها، بجوار أبيها، ولكن هذا هو الإيثار، ولكن هذا هو الكرم، ولكن هذا الإيمان العظيم الذي جعلها تعرف مكانة عمر في دين الإسلام، وتعرف مكانة عمر من رسول الله، وتعرف مكانة عمر من أبيها أبي بكر الصديق - قالت: كنت أريده لنفسي، فوالله لأؤاثرن ابن الخطاب اليوم على نفسي، فلما أقبل عبد الله بن عمر راجعاً إلى أبيه عمر، قال له عمر: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما كان شيءٌ أهم إليَّ من ذلك المضطجع] حي ذاك المضطجع، وحي ذاك المكان، وحي تلك التربة التي ضمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمت صاحبه أبا بكر، وضمت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ما أطهرها وما أطيبها! إلا أنها لا تنفعنا من دون الله، ولا تدفع عنا شيئاً من دون الله، ولا تدفع قدراً من أقدار الله، لكننا نحب ذاك التراب، ونحب أجساداً طيبةً طاهرةً عطرةً من أهل الجنة في ذاك التراب، لكننا لا نعتقد أنها تفرج الكربات، أو تفرج النكبات، أو تجيب الملهوفين، أو تسمع الإغاثات، فذلك توحيدنا الذي أمرنا به حبيبنا، وبقي عليه خليفة رسولنا، وثبت عليه الخلفاء والأئمة بعده.

قال عمر: [ما كان شيءٌ أهم إليَّ من ذلك المضطجع، فإذا قبضت فاحملوني، ثم سلموا، ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب -مرة أخرى- فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين] ردوني إلى مقابر المسلمين، يقولها عمر الذي كسر كسرى وقصم قيصر بأمر الله والجهاد، يقول: [إن أذنت فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين].

فولج شابٌ من الأنصار وهذه صورة:

اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قومٌ ليس يدرون الخبر

صورةٌ عظيمة، صورة جليلة، صورةٌ للدعوة، صورةٌ للحسبة، صورةٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عمر بن الخطاب يدعو وينصح ويحتسب ويأمر وينهى وهو على فراش الموت: ولج عليه شابٌ من الأنصار، فقال الشاب: [أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله لك، لقد كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت، ثم استخلفت فعدلت، ثم شهادةٌ في سبيل الله بعد هذا كله، فقال عمر رضي الله عنه: ليتني -يا بن أخي- أرد على الله كفافاً لا عليَّ ولا ليَّ، فلما أدبر الفتى نظر عمر إلى ثوبه، فرأى إسبالاً في ثوبه، فقال: ردوه عليَّ، فلما عاد، قال عمر بن الخطاب: يا بني! ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك].

وعند خروج روح عمر رضي الله عنه كان رأسه في حجر ولده عبد الله بن عمر، فقال عمر: [ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله بن عمر: يا أبتِ! وهل فخدي والأرض إلا سواء، فقال عمر: ويل عمر إن لم يرحمه ربه، ضع خدي على الأرض لا أم لك في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه رضي الله عنه، فسمعته يقول: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت نفسه وهو يذكر الله ويشهد أن لا إله إلا الله].

الله أكبر! الله أكبر! إقبالٌ على الله واستعدادٌ للرحيل، وإعدادٌ بزادٍ عظيم، ومع ذلك يخشون عاقبة عظيمة.