للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستهزاء بأمور الدين]

كذلك أحبتي في الله: الاستهزاء بأمور الدين، هذا من نواقض لا إله إلا الله، فرب أقوام يقولون: لا إله إلا الله ويستهزئون بمن يطيعون الله عز وجل، ويستهزئون بما شرع الله عز وجل، فيخرجون من الإسلام وتحبط أعمالهم، ويكونون كفرة، وهم لا يشعرون، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:٦٥ - ٦٦] معلوم أن هذه الآية نزلت في رهط من المنافقين الذين قالوا وهم يتضاحكون ويسخرون ويستهزئون، قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً -أي: بطونهم كبار يحبون الأكل- ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله هذه الآية، فلما علموا أن الوحي قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم، جاءوا وناقة النبي صلى الله عليه وسلم تضرب في الأرض، والمنافق ممسك بزمامها والناقة مسرعة والحجارة تنكب قدم هذا المنافق وهو يركض، يريد أن يجاري الناقة، يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! كنا نخوض ونلعب، أحاديث الركب، نستمتع بالسواليف والنكت والطرائف في الطريق، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:٦٦].

فلذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ دينه وأن يحفظ عمله، وكثير من الناس اليوم يعمل عملاً ويضيعه، الناس كثير منهم في جنون، يجمع المال من الفجر إلى غروب الشمس، فإذا أوشكت الشمس أن تغرب أمسك الريالات يحرقها ريالاً تلو الآخر، أمسك الحسنات يحرقها حسنة تلو الأخرى.

يصلي الفجر، ويقرأ القرآن ويتصدق، ويجلس في المسجد، ويأتي بالأذكار، ويستغفر، ويسبح، لكن مشكلته أنه يغتاب، يحرق الحسنات واحدة واحدة، يقول كلاماً يخرجه من الملة، يستهزئ بالمتدينين وباللحى، ويستهزئ بالدين، وبرجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستهزئ بالحسبة، وبالحدود وبالقصاص، وبالحرمات وبالآداب وبالحجاب، وبالعفاف وبالطهر وبالحياء، ويستهزئ بما أوجب الله احترامه ومحبته، فيمرق من الدين وقد جمع من الحسنات ما جمع، فتحبط ويضيع العمل ولا ينفعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فما بالك إذا أضفت على ذلك الصغائر التي يحتقرها العبد، فإذا جاء يوم القيامة وجدها كالجبال، تحرق الأعمال فلا يجدهن.

الحقيقة أن كثيراً من الناس اليوم لا يشكون من قلة الحسنات، ولكنهم يشكون من كثرة السيئات، عندهم حسنات: صلوات، وقراءة قران، وصدقات، وكفالة أيتام، وأعمال خير وجود، لكن يقابل الخير شر أكثر، والموازين يوم القيامة، كفة حسنات وكفة سيئات، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:٦ - ١١].

لذا كان لزاماً على العبد إذا عمل الصالحات أن يحفظها من لسان تحرقها، ومن ردة تفسدها، ومن شرك يحبطها، ومن غيبة تفنيها، ومن حسد يتلفها، احفظ أعمالك -يا أخي المسلم- فإنها تنفعك بإذن الله عز وجل.

ولا غرابة أن نرى كثيراً من العلمانيين وكثيراً من الذين يقع بعضهم في مثل هذه المهلكات العظيمة، بالاستهزاء والسخرية والعبث.

أحد الشباب يطلعني على قصاصة من مجلة كتب فيها الكاتب -يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك- كان هذا الكاتب متديناً صالحاً -أنا لا أعرفه شخصياً ولكني سألت عنه- قالوا: كان على منهج وعلى خير، ولكن يبدو أنه ابتلي بداء لم يكشفه إلا ذنبه هذا، وهو يريد أن يشتهر، ويريد أن يعرف فلم يعرف، فاتجه إلى الجرأة على القضايا الخطيرة الكبيرة، من كلامه اليوم حول كلام ابن مسعود رضي الله عنه: [إن الغناء ينبت النفاق في القلب] يقول: ولعل الذي قال هذا الكلام كان رجلاً صالحاً من السلف الصالح قد ابتلي بحب الغناء في السر، فعاش انفصاماً وازدواجاً بينه وبين نفسه أورثه أن يقول هذا الكلام.

سبحان الله العلي العظيم! يقال هذا لـ عبد الله بن مسعود الذي قال صلى الله عليه وسلم في ساقه لما ضحك الصحابة من ضعفها ودقتها قال: (أتضحكون من ساقه، فإنها أثقل عند الله يوم القيامة من جبل أحد) هذا الصحابي الذي قرأ سورة ق على سطح الكعبة فضرب، فتحمل الأذى والبلاء في سبيل الله في العهد المكي، هذا الصحابي الجليل يقول عنه هذا الكاتب المسكين: ولعل القائل كان مبتلىً بحب الغناء أو باستماع الغناء سراً، فأورثه ذلك انفصاماً وازدواجية في شخصيته -فأورثه عقدة نفسيه- وقال: [إن الغناء ينبت النفاق].

وفرق بين أن يبتلى الإنسان بمعصية وأن يتطاول بالكلام عمن ينهى عنها وينكرها، بعض الناس قد يبتلى بمعصية كشرب خمر، فعل منكر، ولكن تجده يقر ويستغفر: يا رب اغفر لي، يا رب استر عليّ، يا رب تجاوز عني، اللهم تقبل هذه الصدقة واجعلها كفارة عن هذه المعصية ويقول: يا رب إني تائب، وأرجع عن هذه المعصية ولا أعود، ولو فعل ثانية ذنباً عاد ثالثة ورابعة بالتوبة، فهذا يرجى له التوبة، وباب التوبة مفتوح، لكن المصيبة في إنسان يرتكب ذنباً ثم يحلل للناس فعل الذنب، يقول: من قال إنه حرام، يبتلى بفعله ويتحمل أوزار الناس الذين يفعلونه بجرأته على الكلام فيه، وجرأته على علماء الإسلام الذين حرموه ونهوا عنه، إذا كان الأنبياء وأولو العزم من الرسل يقول الواحد منهم يوم القيامة: (يا رب! سلم سلم، يا رب! سلم سلم، يا رب! سلم سلم) من هول المطلع، وشدة الفزع، وعظم الأمر، والناس في حال عظيم، والعرق يلجم الناس، أو إلى ثديهم، أو إلى ركبهم، أو إلى الكعبين منهم، الأمر عظيم جداً، ويأتي من الناس من يقول: لا.

سجلوا عليه، اسمعوا ما شئتم من الأغاني وعلى حسابي، أنا أفتيكم بها، افعلوا ما شئتم من الربا وسجلوها على حسابي، أنا أفتيكم فيه، ويفتي الرجال ويفتي النساء بالمسائل والأمور والعظائم والجلائل ويقول: قيدوا على حسابي، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:٢٥] وهذا من الأمر الخطير الجليل.

أقول: الذين يسخرون بالدين وأهله، لا غرابة في شأنهم، فقد أخبر الله عز وجل عنهم من قبل، كما قال في محكم كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:٢٩ - ٣٣].

أحبتي في الله: نختصر ما تبقى من موضوع كلام هذه الليلة، مؤكداً أن ما يردده الجاهلون والحاقدون والمغرضون من عبارات السخرية والاستهزاء بالصالحين والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ينبغي ألا يفت في عضد العاملين، وألا يجعلهم في ضعف أو شك من أثر الدعوة إلى الله عز وجل، إن أناساً يقولون: ماذا تنفع الخطب والمحاضرات والكلمات، والندوات والأشرطة والكتيبات وهذه اللقاءات، ماذا تنفع أمام القنوات الفضائية التي تخاطب الملايين -ملايين البشر يخاطبون عبر القنوات الفضائية والإنترنت- وأنتم قابعون في هذه المساجد، ونقول: هذه المساجد تهز الجبال هزاً، هذه المساجد تغير وجه الأرض، المساجد هي التي طردت الفرنسيين من الجزائر، المساجد هي التي جعلت أجهزة المخابرات الغربية تحسب ألف حساب لكل مسلم متدين صالح تقي نقي عامل، حلقات تحفيظ القرآن الآن تزعج الغرب إزعاجاً لا يخطر على بال، ليس شرطاً أن يوجد عندنا قنابل نووية بعدد القنابل التي تنام عليها إسرائيل الآن في فلسطين.

ومعلوم أن عبد القدير خان الذي صنع القنبلة النووية في باكستان الذي هدد بالاغتيال قال: يوجد ألف عبد القدير خان مثلي قد علمتهم سر صناعة القنبلة النووية فلا أخشى لو قتلتموني، وتريد دول الغرب أن تنظف المنطقة تماماً من السلاح النووي في الوقت التي تنام إسرائيل على مائة قنبلة نووية، وأكثر من ذلك، لكن والله إن حلقات تحفيظ القرآن، وهذه الندوات والمحاضرات، وخطب المنابر، وهذه الأشرطة، والخطاب الدعوي، والله إنه يقض مضاجعهم، فلا تستهينوا بالسلاح الذي في أيديكم، ولا تتهاونوا بالخير الذي بين يديكم، ولا تظنوا أنكم ضعفاء وقد آتاكم الله من وسائل القوة ما يعجز عنه أولئك، ليست المسألة آلة وجماد وعدة وسلاح، القضية كلمة التوحيد وإثباتها لشيء واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ألوهية وتفرد في الربوبية، فلا تدبير ولا تصرف في كل شأن إلا له وحده سبحانه، ولا عبادة صغرت أو كبرت، جلت أو دقت إلا له وحده لا شريك له، وأتم الصفات وأجمل الأسماء وأكمل السمات لله عز وجل، أكمل الأوصاف وأجل الأسماء لله عز وجل، لا شبيه ولا ند ولا مثيل ولا نظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١].

لا إله إلا الله، ما أثبته الله نثبته، وما نفاه الله ننفيه عن نفسه، وما أثبت النبي صلى الله عليه وسلم نثبته، وما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ننفيه.

إذا سئلنا عن أمر ليس عندنا فيه دليل فلا نتقول: على الله بغير علم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:٣٦] إن سئلت عن شيء أثب