للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجنة وما فيها من الراحة والنعيم]

أيها الأحبة: إن الجنة هي المطلب والأمنية، إن الجنة هي الغاية، واسأل هذا الذي ينفق أمواله سراً وعلانية، ماذا تريد أموال تجمعها في التجارة ثم تنفقها هكذا؟ يقول: أريد الجنة.

واسأل هذا المجاهد ماذا تريد تسلك طريقاً ينفجر فيه لغمٌ فتفقد طرفاً من أطرافك أو حاسةً من حواسك، ماذا تريد؟ تأتيك رصاصة فتزهق بها روحك، ماذا تريد؟ تقصف من فوقك، أو تغتال من تحتك؟ واسأل هذا العالم ما الذي حبسك عن لذات الدنيا، وقطعك عن ملذاتها وأشغلك بحلق العلم، عالمٌ معلمٌ ورءوف برٌ بتلاميذه؟ اسأل هؤلاء جميعاً يقولون: نريد الجنة، فالجنة مطلبٌ كلٌ يريده، وأمنيةٌ كلٌ يشتاق إليها؛ لأنها راحةٌ لا تعب فيها، وكما قال عبد الله بن الإمام أحمد لوالده، وقد رآه يعذب ويفتن ويبتلى، وقد أصابه ما أصابه من التعذيب الجسدي والنفسي في فتنة القول بخلق القرآن، فقال ولده: يا أبتِ! متى الراحة؟ أنت إمام أهل السنة والجماعة، الإمام أحمد كانت تشد إليه الرحال من خراسان ومن بلدان كثيرة يطلب الحديث منه، الإمام أحمد بن حنبل يقول له ولده وهو يراه قد ابتلي بلاءً عظيماً: يا أبتِ! متى الراحة؟ فيقول الإمام: الراحة عند أول قدمٍ نضعها في الجنة.

الذي يدخل الجنة انتهت قضيته، قبل دخول الجنة تكون على خطر عظيم، لكن إذا دخلتها انتهت القضية، خلودٌ لا يكدره موت، نعيمٌ لا يكدره عذاب، عزةٌ لا يكدرها ذلة، أمنٌ لا يكدره خوف.

اسأل نفسك -أيها الحبيب- وأنت تعود إلى بيتك في نهاية عملك كل يوم متعباً مرهقاً مكدوداً وأنت تقول: متى أرتاح من عناء هذا العمل؟ وهل أتعبت جسدك في هموم هذا العمل، وأرهقت أعصابك، وأقلقت نفسك، وأتعبت بالك، ثم تساءلت: متى أضع حداً لهذا العمل؟ وهل توقعت أن ترتاح بعد أن تنتهي من دراستك، وحين أنهيتها بدأت متاعب جديدة؟ وهل أملت أن تظفر بالراحة من تعب حياة ما قبل الزواج، وتقول: متى أتزوج فأرتاح، ثم تزوجت فوجدت متاعب جديدة؟ هل رسمت في ذهنك حياةً مريحة حين تجمع من المال مبلغاً، وحين جمعت هذا المال نشأت لك بعد جمع المال متاعب جديدة، ثم تقول: ومتى أستثمره حتى أرتاح من همه، فإذا دخلت في استثماراته أتعبتك متابعة هذه الاستثمارات؟ إن التعب ملازمٌ لهذه الحياة الدنيا سواء كنت فقيراً أم غنياً، أم أميراً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤].

من ذا الذي قد نال راحة عمره فيما مضى من عسره أو يسره

يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره

وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الـ رجل العقيم كمينة في صدره

أوما ترى الملك العظيم بجنده رهن الهموم على جلالة قدره

فتراه يمشي والهاً في قصره وبنفسه همٌ تضيق به جوانب قصره

ولرب طالب راحة في نومه جاءته أحلامٌ فهام بأمره

ولقد حسدت الطير في أوكارها فرأيت منها ما يصاد بوكره

والحوت يأتي حتفه في بحره والوحش يأتي موته في بره

كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومره

ليس في هذه الدنيا راحةٌ مطلقةٌ أبداً، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦] يقول ابن كثير: المؤمن يكدح ثم إلى الجنة، والكافر يكدح ثم إلى النار: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤].

لا يمكن أن تضع حداً لمتاعب هذه الدنيا حتى وإن كنت من كنت في مرتبتك أو منزلتك أو جاهك أو مكانتك أو أموالك، لا بد أن تجد من هذه الدنيا تعباً ونصباً، والناس متفاوتون في ذلك.

أيها الأحبة: إذا أدركنا ذلك فلابد أنه يشوقنا إلى نعيم الجنة، ويجعلنا نأمل نعيماً لا تكدره هذه الأكدار، إن كنت خائفاً لا تجد لمتعةٍ لذة، ولا للذة متعة، ولا تجد للطعام طعماً، ولا للشراب ذوقاً، إذا كنت خائفاً فلا يمكن أن تستمع بكل ما أُتيت من حولك إلا في ظل الأمن والدنيا يكدرها الخوف في كل حال، أما الجنة ففيها الأمن بإذن الله عز وجل.

وإن مما يعذب به أهل الدنيا أن يزول الأمن من نفوسهم وقلوبهم، ثم يزول من أوطانهم إذا هم كفروا بنعم الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:١١٢] ولماذا قال الله عز وجل: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} [النحل:١١٢]؟ لماذا جعل الجوع والخوف لباساً؟ من عظيم نكد الدنيا وكدرها أن الجوع يفصل كما يفصل اللباس، أكمامٌ على الأيدي، وسرابيل على الأبدان، وقلانس على الرءوس من الخوف والجوع، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لذا كان أهل الجنة هم الآمنون يوم الفزع، قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:٨٩]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:٥١]، {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء:١٠٣] يقول أهل العلم وهو الصحيح من قولهم: إن أهل الإيمان يستثنون من الفزع الأكبر والخوف يوم القيامة، لا أنه يعم المؤمن والكافر، فإن كنت من أهل الجنة فلن تكون من الذين يفزعون يوم الفزع الأكبر، وإن كنت من أهل الجنة فأنت بعيدٌ عن حسيس النار ولهيبها: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:١٠٢].