للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مجتمعات تقاذفتها أمواج البحر]

أيها الأحبة في الله: ينبغي أن نعلم تماماً أن سفينة مجتمعنا هي ماضية بنا وكل واحد منا عضو في هذا المجتمع، ومجموعنا نكون مجتمعاً واحداً وكلنا سائرون في هذه الدنيا إلى دار أخرى؛ ولكن من المهم تماماً أن نعلم أن كثيراً من الناس ربما تحطمت بهم السفينة قبل أن يبلغوا شيئاً من عمق البحر أو قبل أن تمخر بهم السفن في عرضه وطوله.

أعني بذلك: مجتمعات نشبت فيها الفتن وكثر فيها القيل والقال، وضاعت فيها المناهج، واختلطت المبادئ، وضيَّع القومُ صراطاً مستقيماً مبيناً قويماً، وأصبح الدليل حيران.

تاه الدليل فلا تعجب إذا تاهوا أو ضيَّع الركبَ أذنابٌ وأشباهُ

أيها الأحبة: إننا يوم أن ننظر إلى سفنٍ اجتماعية عبارة عن مدن أو مجتمعات أو دول: فمنها: مَن يتخبط ذات اليمين وذات الشمال.

ومنها: مَن هم ضاربون في أعماق الرذيلة والفساد والضلالة والانحراف {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:١٠٤].

ومنهم: مَن تحطمت بهم السفن، وتكسرت بهم الألواح، وكثر الغرقى، ولم يُسمع لصائحهم صيحة، ولم يَستجب لمناديهم أحد.

فهذه مجتمعات: منها: مَن ضلَّ وتحطم وانتهى وانكسر.

ومنها: مَن ما يزال قائماً.

ومنها: مَن ينازع سكرات النهاية يوشك أن يفارق هذه الدنيا.

تأملوا مثلاً فلسطين التي هي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى: إنك يوم أن تتأمل أحوال إخواننا المسلمين في فلسطين وقد مضوا ستين عاماً قد انكسرت سفينة مجتمعهم، ولسنا بصدد البحث عن أسباب كسر هذه السفينة؛ لكنك تجد قوماً لا سفينة لهم؛ بمعنى لا مجتمع أو لا كيان يحميهم ويجمعهم ويوحدهم ويمثلهم إلا ما كان من أمرٍ تعلموا حكم الإسلام فيه قبل أشهر أو أسابيع معدودة.

وعلى سبيل المثال أيضاً: تطاولت يد الشيوعية على مجتمع المسلمين في أفغانستان فحطمت، وتصارعت أمواج الشيوعية مع سفينة ضعيفة في المجتمع الأفغاني، وما زال الناس يرون لوحاً منكسراً يتعلقون به، أو شراعاً يُمَدُّ ليدفع هذه السفينة شيئاً ما، وما زالوا يصارعون وينازعون الأمواج حتى بلغوا إلى قريب من شاطئ الأمان وبر النهاية، وليست هذه هي النهاية إنما النهاية أن يُحَكَّم كتابُ الله وأن تُطَبَّق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو التوحيد ولا يعلو شرك عليه بأي حال من الأحوال.

ولك أن تتأمل مجتمع أو سفينة إخواننا في البوسنة والهرسك وهي قد تحطمت على يد الصرب وما بقي إلا أقل من ألواح؛ بل أدنى من عيدان هشة تعلق بها من تعلق، فالقوم في محنة لا يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يفرج كربتهم، وأن يعجل نصرهم، وأن يكسر أعداءنا وأعداءهم.

وخذوا أيضاً الصومال وكيف انهار ذلك المجتمع، وكيف تحطمت تلك السفينة، فالناس الآن إما في سفينة يبحرون بها على خطر ووجل، وإما أقوام صارعوا أمواجاً عنيفة متلاطمة عنيدة فكسَّرت سفنهم، وبقي البقية منهم ينازعون البقاء، ويعالجون السباحة لبلوغ بر الأمان على ألواح هشة.

ونحن في هذه البلاد وفي هذا المجتمع نعيش على سفينة حسبنا من الخطر أن اسمها سفينة، وحسبنا من الخطر أننا في بحر تتلاطم أمواجه، وحسبنا من الخطر أننا نعالج ونواجه قوىً تتربص بنا في داخل أرضنا ومن خارجها.

وإني أقف وقفة يسيرة أمام بعض أحبابنا الذين ينزعجون عند مثل هذا الكلام، حينما نتكلم عن الأعداء وعن الشر، وعن المتربصين والعلمانيين، وعن الفجرة وعن الذين يتمنون البلاء والفتنة والشر بهذا المجتمع، إني أقول لأولئك: لا تزعجكم هذه العبارات فإنها موجودة مذ وجد أفضل الخلق وأفضل المجتمعات وأفضل الأجيال، بل إن من تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في مستهل خطبته: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) فالنفس فيها شر فكيف ينكر أحد وجود شر في بيته أو في مجتمعه، أو وجود خطر من شر يحوم حوله.

وأيضاً كما جاء في السنة: (أنه من بنى بامرأة فله أن يضع يده على ناصيتها ويقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جُبِلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جُبِلت عليه) فأنفسنا فيها شرور نسأل الله أن يعيذنا منها، وزوجاتنا فيهن شرور نسأل الله أن يدفع شرهن عن أنفسهن وعنا، وأموالنا وأولادنا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥] ففي أموالنا أعداء، ومن أولادنا أعداء، ومن بيننا أعداء؛ فكيف ينزعج البعض حينما يسمع كلمة الشر والعداوة، والتخطيط والمكيدة، والمنافق والمتربص وكلها موجودة؛ ولو خلا منها مجتمع لخلا منها أفضل مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم.