للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سفيان الثوري وتذكره للموت]

وهذا سفيان الثوري يقول الإمام الذهبي عنه: سفيان الثوري، شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمنه، كان سفيان رضي الله عنه لشدة تعلقه بالآخرة، واستيلاء هَم الآخرة على فكره كأنه جاء من الآخرة، يحدث الناس عن الآخرة كأنما رآها رأي العين، ويقول أبو نعيم: كان سفيان إذا ذكر الموت لم ينتفع بالطعام والشراب أياماً، ويقول ابن مهدي: كنا نكون عند سفيان فكأنما وقف للحساب بين يدي الله جل وعلا، ويروي أحد أتباعه يوسف بن أسباط عن مدى تعلق سفيان بالآخرة قال: قال لي سفيان وقد صلينا العشاء الآخرة: ناولني المطهرة، أي: إداوة أو إناء فيه ماء يتوضأ منه، قال: فناولته المطهرة فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، قال: فنمت، فاستيقظت وقد طلع الفجر، فنظرت إلى سفيان والمطهرة بيمينه ويده اليسرى على خده فقلت: يا أبا عبد الله! هذا الفجر قد طلع فقال: لم أزل منذ ناولتني هذه المطهرة أتفكر في أمر الآخرة حتى الساعة.

وهذا عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما عاشرت في الناس رجلاً أرق من سفيان، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي النار النار! شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم لحاجتي غير معلم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي! إن الجزع قد أرقني وذلك من نعمك السابغة علي، إلهي! لو كان لي عذر في الخلوة ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يقبل على صلاته وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى يقول عبد الرحمن بن مهدي: إن كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه، وما كنت أقدر أنظر إليه استحياءً وهيبة منه، وإنما أرمقه ببصري رمقاً.

وهذا الحسن البصري يتقلب ويخشى عند فراق روحه البدن، لما بكى بكاءً شديداً قالوا له: أو لست الإمام العالم الزاهد المحدث؟ فقال: أخشى أن يطرحني في النار ولا يبالي، ويرددون عليه فيقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧].

أما نحن -أيها الأحبة- فإننا قد يبدو لنا ما نحسبه ونحتسبه، وقد يبدو لنا ما نعرفه عن أنفسنا وزلاتنا وهفواتنا وأخطائنا.

كم ليلة أودعتها مآثماً أبدعتها

في غفلة أطعتها لشهوة ومطمع

نحن أدرى بعيوبنا وذنوبنا وما أقل ما نذكر الآخرة، وإذا مرت الآخرة علينا مرت مرور الكرام.

فيا أيها الأحباب: تذكروا واستعدوا وأعدوا وكما قال عمر بن الخطاب: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا] وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥].

أيها الأحبة: ما عذرنا أمام ربنا؟ أولم يجعل لنا بصراً فلماذا نظرنا إلى الحرام؟ أولم يجعل لنا سمعاً؛ فلماذا سمعنا الحرام؟ أولم يجعل لنا أقداماً؛ فلماذا مشينا إلى الحرام؟ أو لم يجعل لنا قلوباً وألباباً وأفئدة؛ فلماذا نفكر بالحرام؟ هل من توبة؟ هل من عودة؟ هل من رجعة؟ هل من مبادرة إلى التوبة قبل أن يحل بنا الأجل؟ قبل أن تخطفنا سهام المنون؟

صادفن منها غرة فأصبنها إن المنايا لا تطيش سهامها