للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[واقعنا الاجتماعي وماضينا الاجتماعي]

ثم يا معاشر الأحبة! لماذا هذا البون الشاسع والمساحة الواسعة بين الماضي واليوم فيما يتعلق بالهم على مستوى المعيشة والحياة؟! أقول لكم: إننا خفنا على أمرين اثنين: خفنا على الحياة، على الروح مثل ما يقال: (يا روح ما بعدك روح) خفنا على الحياة، وخفنا على المال، ونسينا أن الآجال لا تتقدم ولا تتأخر {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤].

الخوف على الروح، الخوف على الحياة، بعض الناس بلغت به الوسوسة أن يظن أن كل خطوة يعملها للإسلام أنه يقتل بها من قال لك هذا الكلام؟ وسوس الشيطان في ذهنك وزين لك، وإني أعجب أن نرى -ولله الحمد والمنّة- في بلادنا مجالات عديدة للعمل الإسلامي، كالشمس في رابعة النهار، ما تريد لها في الليل، تقول هذا عمل ممنوع أو سري، مجالات عديدة للعمل الإسلامي التطوعي مفتوحة، ومع ذلك تجد الواحد يتخفى كأنه يريد أن يبيع كيلو (هروين) وإلا (كوكايين) فيتلفت يخاف أن يراه أحد، لماذا هذا الخوف؟ لماذا هذا الذعر والهلع والخوف؟ يقولون: إن رجلاً كان في منطقة من مناطق نجد وأصله أفغاني كما يقال، يسمونه (درويش) قالوا له: إن أمير المنطقة سوف يقتلك، اهرب، كان ذلك قبل الحكم الحالي، أمير المنطقة سوف يقتلك، وكان لا يحسن العربية فقال: أنا ما أهرب، إذا الله يقول: درويش يموت أنا أموت، إذا الله يقول درويش ما يموت أنا ما أموت يا مجنون اهرب، الرجال يريد أن يذبحك، قال: ما في، فلما جاء الليل إذ بالناعي ينعى والصائح يصيح: إن الأمير مات في فراشه البارحة، فلما جاءوا الفجر وإذا به جائي إلى المسجد الذي يصلي على جنازته يصلي معه.

قالوا: ما الذي أتى بك؟ قال: جئت من أجل أن أقول بعد أن أكبر الرابعة: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥].

فيا إخوان الأجل بيد الله.

أقول لها وقد طارت شعاعاً.

تنتفض خوفاً.

أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي

فإنك لو سألت بقاء يوم عن الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع

والله يا إخوان ما أحد يتجاوز يوماً واحداً، الأخ عبد الهادي التونسي أسأل الله أن يجعله من الشهداء، جلس أسيراً في السجن الشيوعي، بولى شرخى في كابول سجن، كما أخبر عنه من حدث به، قال: من شدة البلاء فيه، زنزانات يجتمع فيها دورات المياه مكشوفة على المجلس، فإذا أراد أحد المساجين أن يقضي حاجته إخوانه يولون وجوههم للجدار وهو يقضي حاجته هناك ويسمعون ضراطه ويشمون رائحته، من شدة العذاب، خرج من السجن بعد مدة، بعد سنوات، ما كتب له أن يموت، ولما خرج يركب سيارة من سيارات المجاهدين، ويقول سياف: لا تتعدوا هذه المنطقة، فينسى السائق أو يغفل، فيتعداها فيقع في الأسر من جديد ويقتل في تلك اللحظة.

أسره بعض الشيوعيين وقتله بسرعة، سنوات في الأسر ما قتل فيها، وبعد الخروج والحرية حانت اللحظة والساعة فمات.

تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر

وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري

وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

الخوف على الحياة هو الذي قتلنا وذبحنا، الواحد يخاف الحياة حلوة، حياة زينة، رضينا بها، اطمأننا بالحياة الدنيا، لكن أسألكم بالله يا إخوان: الحياة ما هي؟ لو كان أحدنا عطشان ثم شرب شربة الماء يتلذذ بها، أو إنسان عطشان يوشك أن يموت من العطش، فعند الرمق الأخير من الحياة والعذاب وتقطع البدن، من معاناة ألم العطش وجد شربة الماء، فشاء الله أن ينحبس الماء في جوفه ولا يتبول، فإنه يتعذب، حتى يخرج هذا الشيء الذي كان أشد ما يتمنى، فالحياة ألذ ما تتمناه أحب ما تفارقه، ألذ طعام يزرع في بلاد ويجنى ويصدر ويجفف، ويحضر إليك، ويحضر له الغاز، وتضع المقادير وتطبخه، ثم تأكله بنهم وشراهة وأكل ولذة، ألذ طعام تشتهيه مر بمرحلة طويلة حتى وصل إلى فمك، فترة اللذة على اللسان فقط، ثم إذا دخل الجوف والله إن أكلت علفاً أو أكلت غيره ما تختلف، إذا وصلت الجوف انتهت العملية، لكن ألذ طعام بعد هذه المرحلة إذا أكلته لو احتبس في بطنك تمنيت عملية جراحية لإخراج الغائط من بطنك، ما هذه الحياة؟ حياة لا نضمن فيها البقاء، هل وجدتم أحداً عمره مائتين أو ثلاثمائة سنة؟!!

نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح

لتموتن ولو عمرت ما عمر نوح

أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح

حيث إن الذنوب مالها روائح وإلا ما اجتمعنا في هذا المسجد.

ما هذه الحياة؟ حياة قوة، شباب، عنفوان، مرض وفراش، ثم يغسل ميتاً، والعقل الجبار، العقل الذي تعامل مع برامج الكمبيوتر، العقل الذي يدير أدق العمليات الجراحية، مآله إلى التراب، ما الحياة؟ ما الحياة؟ اجتماع بعده افتراق، صحة بعدها مرض وسقم، لذة بعدها كدر، إن لم تخرج بولاً وغائطاً، ما الحياة؟ الحياة:

طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

ما الحياة التي نتعلق بها؟! ما هي الدنيا التي نخاف عليها؟! وهي السبب في حال المسلمين من الضعف والخور والجبن، وعين كلام النبي صلى الله عليه وسلم بدأ جلياً واضحاً فينا اليوم: (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها؟ قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا.

أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يصيبكم الوهن، وينزع الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) فعلاً أيها الأحبة! هكذا أحببنا الدنيا، ولو تأملنا حقيقة الدنيا لما وجدنا أنا كم رأيت أناساً والله يكدون كد الحمير وهم أفقر عباد الله، ورأيت أقواماً بأدنى سبب تفتح لهم به الأموال والأرصدة والأرزاق.

يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد جاءني جبريل ونفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها) الذي يشتغل فترتين أو ثلاث، والذي يشتغل أربع ساعات كل منهم لن يموت حتى تقول الملائكة: لقد أكل آخر لقمة، وشرب آخر شربة، واستهلك آخر ريال، وقبض آخر درهم.

ستموت بعدما ما تستوفي جميع حقوقك من التقاعد، وخارج الدوام والراتب الرئيسي وبدل النقل، لن يبقى لك شيء أبداً.

كما يقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) أي: ابذل السبب للرزق لكن لا تجعل الدنيا أكبر همك.