للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المعروف والمنكر]

هل المعروف ما تعارفنا عليه؟ وهل المنكر ما اتفقنا على إنكاره؟ هل المعروف ما رآه فلان وعلان؟ وهل المنكر ما أنكره فلان وعلان؟ كلا ولا وألف لا، إنما المعروف ما كان معروفاًَ في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنكر ما كان منكراً في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا من جميل خصال وسمات منهج أهل السنة والجماعة الذي يقرر فيه أئمة السلف وعلماء الملة والشريعة: أن التحسين والتقبيح ما هو إلا من جهة الشرع لا من جهة العقل، أما المعتزلة والمناطقة والفلاسفة والمتكلمون فإنهم يقولون بالتقبيح والتحسين العقليين، يعني: ما كان في العقول حسناً فهو حسن، وما كان في العقول قبيحاً فهو قبيح، وهذا قد جعلهم يضلون ضلالاً بعيداً، وقادهم إلى التعطيل والتشبيه والضلال في باب الأسماء والصفات، بل قاد كثيراً من متقدميهم ومتأخريهم إلى إنكار صريح السنة بحجة أنه خبر آحاد، وقاد بعضهم إلى نفي المتواتر من الدين بتأويلٍ لا مسوِّغ له ولا قرينة تصرف إليه، وكلكم تعلمون هذه المسائل.

إذاً: فالمعروف ما كان معروفاً في كلام الله ورسوله، والمنكر ما كان منكراً في كلام الله ورسوله؛ إذ لو أن الأمر اعتبر فيه ما اجتمع عليه الناس لكان اجتماع الناس في زمن أو في مكان على منكر من المنكرات واعتباره معروفاً يحوِّل الحرام حلالاً والحلال حراماً.

انظر إلى بعض مجتمعات المسلمين فضلاً عن مجتمعات الكفار كيف ينظرون إلى أن فعل المرأة بتبرجها وكونها حاسرة عن شعرها، مُبْدِية صدرها، حتى أبانت ذراعيها وشيئاً من ساقيها، يرونه مما تعارف عليه الناس بل وربما أُنْكر على مسلمة تحجبت وغطت وجهها وسترت يدها وساقها ونحو ذلك.

هل اجتماع الناس في بلد من البلدان ولو سميت إسلامية نسبة إلى تعداد المسلمين وإن كانت أنظمتها ضالة ظالمة، هل اجتماع الناس على أمر كهذا يغير مسألة التبرج من كونها حراماً ومنكراً إلى المعروف والحلال؟! لا وألف لا، بل في كثير من المجتمعات يُعَد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاته تدخلاً وعدوانية وفضولية، بل وربما عوقب الإنسان لأنه أمر أو نهى، وربما تعارف الناس على مثل هذا، فكون الناس تعارفوا على ترك الأمر بالمعروف، واعتبار القيام به فضولية وتدخلاً في شئون الآخرين فإن ذلك لا يغير حقيقته.

إذاً: فالمعروف معروف بكلام الله وكلام رسوله، والمنكر منكر بكلام الله وكلام رسوله في كل زمان وفي كل مكان؛ إذ أن الذي خلق العباد هو الذي أنزل الكتاب، وهو الذي شرع الشرائع، وهو الذي سن الأحكام، وهو الذي أحل الحلال وحرم الحرام: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤].

إن ربنا جل وعلا يوم أن شرع في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صنوف وألوان وأحكام الحلال والحرام شرعها للبشر في كل زمان ومكان؛ فلا يتغير المنكر بل يبقى منكراً إلى يوم القيامة، ولا يتغير بل يبقى المعروف إلى يوم القيامة، وقد ضل وجهل وسقم من ظن أن الأمور يمكن أن تتحول من كونها معروفاً إلى منكراً ومن كونها منكرةً إلى المعروف، بل إنما الذي يتغير أنواع من المباحات ربما تكون في بعض الأحيان لمصلحة العباد أن يُمْنَعوا من شيء منها، ولمصلحة العباد أن يؤمروا أو يجبروا على شيء منها؛ مما يقدره العلماء ومما تقتضيه المصالح المرسَلَة والمصالح الشرعية المرعية.

إذاً: فأول قاعدة في هداية هذه السفينة وسيرها المطمئن إلى بر الأمان أن نعرف أن حاجتها إلى إقرار المعروف والعمل به ومعرفة المنكر والحذر منه، والمعروف ما كان معروفاً في الكتاب والسنة، والمنكر ما كان منكراً في الكتاب والسنة، حتى ولو أجمع الناس وأطبقوا على خلافه.