للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإقبال على الموت والتزود للآخرة]

معاشر المؤمنين! ما قيمة العمر، وما لذة الحياة إن لم تنل النفوس نصيبها وافراً من طاعة الله، والصلة به، والانكسار بين يديه، والبكاء من خشيته، واللجوء إلى جنابه، ومجالسة أوليائه وأحبابه، فإن خلت الحياة من هذا فلا مرحباً بطول العمر، ويا حبذا الموت قبل الغفلة والوقوع في المعاصي.

لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة وكان صائماً قال لجاريته: انظري هل غربت الشمس؟ فلما أخبرته أنها قد غربت تناول شيئاً يسيراً أفطر عليه، ثم قال: [مرحباً بالموت، مرحباً بحبيب جاء على فاقة] لا أفلح والله من ندم على الدنيا.

يقول معاذ بن جبل: [اللهم إنك تعلم أني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، وإنما أحببت البقاء فيها لقيام الليل وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، آهٍ إلى ذلك] ثم مضى وفاضت روحه رضي الله عنه.

عباد الله: إن هذا الموت الذي نخافه، ونفزع منه، ليس هو الفناء الأبدي، ولكنه الانتقال من النعيم الشقاء العاجل الزائل إلى دار الخلود في النعيم أو العذاب المقيم، فما خلقت يا عبد الله! إلا لعبادة ربك، وما سخر لك ما فيها إلا لنفس الغاية التي من أجلها وجدت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] ولا تنسى قول رب العالمين: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] فالدنيا دار الابتلاء والامتحان، دار الزراعة والبذر، حفت بالنكد والأكدار، والشرور والأضرار، حلالها حساب، وحرامها عقاب، فلا عيش والله إلا عيش الآخرة، يوم يقول المؤمنون في جنة ربهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:٣٤ - ٣٥].

اللهم اجعلنا ممن يقولها في دار النعيم، اللهم اجعلنا ممن يقولها في دار الخلود، برحمتك يا أرحم الراحمين.

فما دارنا هذه بدار إقامةٍ ولكنها دار ابتلا وتزود

أمَا جاءنا من ربنا وتزودوا فما عذر من وافاه غير مزود

ينادي لسان الحال جدوا لترحلوا عن المنزل الغث الكثير التنكد

أتاك نذير الشيب بالسقم مخبراً بأنك تتلو القوم في اليوم أو غد

عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعظ رجلاً ويقول: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبلك هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.