للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استدلالهم على فعل الفاحشة بفعل الآباء]

وأخبث من هذا: أن بعضهم يفعل الفاحشة والمنكر ويصر عليها ويحتج على فعلها، بل ويستدل على جواز فعله بما وجد عليه آباءه وأهله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:٢٨ - ٢٩].

قال ابن كثير في معنى هذه الآية: وكانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثياب لبسوها، ويتأولون ذلك أنهم لا يطوفون في ثيابٍ عصوا الله فيها، وكانت قريش -وتسمى: الحمس- يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسياً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً ولم يعره أحمسيٌ ثوباً طاف عرياناً، وربما كانت المرأة من غير قريش تطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً يستره وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله

وأكثر ما كن النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئاً ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرعٍ منه، فأنكر ذلك عليهم ربنا عز وجل، وبين كذبه وما يدعون بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:٢٨] فرد عليهم عز وجل بقوله: ((قُلْ)) أي: يا محمد ((إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:٢٨] بل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل:٩٠] إن الله لا يأمر بالفحشاء، إن هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة والله لا يأمر بمثل ذلك: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٢٨].

وإن العبرة في نصوص القرآن والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا أردنا أن نطبق هذه الآيات على واقعنا اليوم لوجدنا بعض المسلمين هداهم الله يفعلون بعض المنكرات، ويرتكبونها، ويصرون عليها، بحجة فعل آبائهم لها، بل ويستدلون بفعل آبائهم على جوازها وإباحتها.

كذلك الحال في كثير من المعاصي والمنكرات، والبدع والخرافات، بل وما وقع فيه الناس في كثير من العادات والأعراف، وخذ على سبيل المثال: بدع الموالد، وبدع الإسراء والمعراج، وبدع الهجرة، وكشف النساء وجوههن لغير المحارم، ومصافحة النساء للرجال في كثير من البلدان، ومخالطة الرجال لغير المحارم أيضاً، والإسراف في الولائم والحفلات والمناسبات، وكثير من العادات التي لا تجوز مما يصدق عليه أو يصنف في شأن العادات، أو العقائد أو غير ذلك، تجد أن الذي يفعلونه يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم.

إن الله عز وجل مقت أولئك وبين شأنهم فقال فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:٣] إذا أقيمت عليهم الحجة، ونصبت لهم المحجة، ووصف لهم الصراط، ودعوا إلى الهدى؛ يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:٢١] لم يكن لهم حجة إلا اتباع آبائهم.