للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السمع والطاعة مع الصبر على الأذى]

ومن الأدلة ما أخرجه مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إنا كنا في شر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم.

قلت: وهل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم.

قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم.

قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.

قال: قلت: يا رسول الله! كيف أصنع إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع).

أنا أعلم أن هذه الأحاديث قد لا تعجب كثيراً من الذين لا يشتهون الكلام عن هذه القضية، لكن هذه مسألة دين، وهذه مسألة عقيدة، فكما أن الله عز وجل شرع أن صلاة الظهر أربع ركعات والعصر أربع ركعات والفجر ركعتان، فكذلك شرع لنا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسمع وأن نطيع ولو جلد ظهر مظلوم، ولو أخذ مال مظلوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بذلك، وهنا تكون الاستجابة لله ورسوله، أن تستجيب لله ورسوله فيما تشتهيه وما لا تشتهيه، فيما تحبه وما لا تحبه، نعم لا يوجد أحد يشتهي أن يضرب ظهره، وأن يؤخذ ماله ثم يقول: أنا أريد أن أسمع وأطيع، لكن إذا ورد الدليل وفقهنا؛ فحينئذ يكون التزامنا وإقدامنا وقبولنا بهذا الأمر طاعة لله وطاعة لرسوله وليس حباً في ظلم وليس حباً في مظلمة تكون على مسلم.

وتأملوا هذا الحديث أيها الأحبة فهو من الأحاديث التي جاءت في هذا الباب، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه سيأتي أئمة لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته، وذلك أمر عظيم في الضلال والفساد والزيغ والعناد، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطاعتهم، أي أنه حتى لو كان حال الحكام وحال الأمراء على هذه الصفة؛ فإن المسلم مأمور بالطاعة في غير معصية الله، كما جاء ذلك مقيداً في أحاديث أخر حتى ولو بلغ الأمر ما علمتم من ضرب الظهور وأخذ الأموال؛ فإن هذا لا يحمل على ترك الطاعة أو عدم سماع الأمر، ولا يحمل على شق الجماعة والخروج على ذلك، فإن هذا الجرم عليهم سيحاسبون ويجازون به يوم القيامة، فإن قادك الهوى إلى مخالفة هذا الأمر الحكيم والشرع المستقيم، فلم تسمع ولم تطع لأميرك؛ فقد لحقك الإثم ووقعت في المحذور.

وهذا الأمر النبوي هو من تمام العدل الذي جاء به الإسلام، فإن هذا المضرور إذا لم يسمع ويطع وذاك المضرور إذا لم يسمع ويطع، والآخر الذي أخذ ماله لم يسمع ويطع؛ ماذا تكون النتيجة؟ يفضي هذا إلى تعطيل المصالح الدينية والدنيوية، فيقع الظلم على جميع الرعية أو على أكثر الرعية، وبذلك يرتفع العدل عن العباد والبلاد، فتتحقق المفسدة وتلحق بالجميع ولا تكون مقصورة على واحد أو اثنين أو عشرة أو مائة أو مائتين، بينما لو ظلم هذا فصبر واحتسب، وسأل الله الفرج وسمع وأطاع، وكذلك الآخر إذا أخذ ماله فصبر واحتسب، وسأل الله الفرج وسمع وأطاع؛ لقامت المصالح ولم تتعطل ولم يضع حقه عند الله سبحانه وتعالى، بل ربما عوضه الله خيراً منه وربما ادخره الله له في الآخرة، وهذا من محاسن الشريعة؛ فإنها لم ترتب السمع والطاعة على عدل الأئمة، ولو كان الأمر في ذلك لكانت الدنيا كلها هرجاً ومرجاً.

ومن الأدلة أيضاً ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم -فسماهم أئمة- الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم.

قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة) وفي لفظ آخر لـ مسلم أيضاً: (ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة).

ومن النصوص أيضاً ما أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).

ومن النصوص الواردة في لزوم السمع والطاعة والصبر على جور الأئمة وعدم الخروج عليهم وعدم النزاع حتى لو كان منهم ما كان، ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث في الصحيحين - فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) هذا لفظ الإمام مسلم رحمه الله.