للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أثر تذكر الموت في ترك الدنيا ونعيمها]

الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح رحمه الله رحمة واسعة كان يلقي درساً في الحديث على طلابه في بخارى فبلغه نبأ وفاة الإمام الدارمي رحمه الله، فأجهش وأطرق بالبكاء وسمع طلابه نشيجه وبكاءه، ورأوا دموعه تنحدر على وجنتيه ولحيته، فلما رفع رأسه قالوا: ما الخطب يا أبا عبد الله، فقال بصوتٍ وهو أسيف، قال في صوتٍ فيه نشيج:

إن تبق تفجع بالأحبة كلهم وفناءُ نفسك لا أبا لك أفجع

إن بقينا نفجع بموت أحبابنا، وإن فجعنا بموت أنفسنا، فتلك والله فاجعة عظيمة، فالرحيل مصيبة، وسماه الله مصيبة، ولكن أعظم من مصيبة الموت والرحيل، مصيبة الغفلة عن الموت والرحيل، ومصيبة الإعراض عن ذكره، ومصيبة عدم الرغبة في سماعه، وقلة التفكير فيه، وترك العمل لما بعده.

عمر بن عبد العزيز يكون في فراشه مع زوجته، ثم يتذكر الرحيل فيقوم عنها ويبكي، يتذكر رحيله في تلك اللحظات التي يغفل فيها الغافلون، وذكر الرحيل من أهم الأمور التي تلين بها القلوب القاسية، إن تذكر الرحيل يردع الإنسان عن ارتكاب المعاصي، ويجعله يترك الفرح بالدنيا ويهول المصائب فيها.

قال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لبٍ فرحاً، وما ألزم عبدٌ قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا في عينه وهان عليه كل ما فيها، وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إن هذا الموت قد أفسد على الناس نعيمهم فالتمسوا نعيماً لا موت فيه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكب عبد الله بن عمر فقال: (كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: [إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك] رواه الإمام البخاري.