للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حسن الأسلوب في مناصحة الحكام]

وإن من تمام الولاء لهم ومن تمام البيعة ومن تمام الإخلاص والنصيحة لهم، أن تبين لهم الأخطار وأن يرفع إليهم بشأن المنكرات، وأن يتابع معهم في هذا الأمر، روى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه وهذا الحديث نص في ضرورة مراعاة الكيفية التي يناصح بها الحاكم.

يا أحبابي! لو أن واحداً من الآباء جاءه واحد من أولاده فقال: يا أبت أنت فاسق، في بيتنا دش.

يا أبت أنت ديوث، أنت تفعل كذا وأنت تفعل كذا وأنت تفعل كذا، ما ظنك بالأب وهو يسمع من ولده هذه النصائح التي يقول فيها بعلم وبجهل وبحق وبباطل؟ والله يوشك أن يتخلص من حياته، إذا كانت نصيحة الولد للوالد تحتاج إلى مراعاة وأسلوب وكيفية؛ فكذلك مناصحة الحاكم لابد لها من كيفية تناسب المقصود وهو إيصال الخطر والمنكر وبيانه لهم وتحذيرهم من مغبته، وإيصال ما نقص من المعروف لهم حتى يأمروا بتمامه وإكماله.

روى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه عن عياض بن غنم قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبذله علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه) وهذا حديث عظيم وحجة قوية في مناصحة الحاكم، ما تأتي تناصح الحاكم أمام الناس فربما جعلته يستشيط غضباً ويتحداك عناداً وإصراراً، لكن كما في الحديث: (من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبذله علانية -أي: لا تنصحه أمام خلق الله- ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه).

وأخرج مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان بن عفان لتكلمه؟ أي: يقولون: يا أسامة لماذا لا تنكر بعض الأمور على عثمان بن عفان الخليفة الثالث الراشد؟ فقال أسامة: أترون أني لا أكلم عثمان إلا أن أسمعكم؟! أي: أتريدونني أن أنصحه وأنتم تسمعون؟ تريدون أن أكلمه وأنتم تنظرون؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه.

أي: لا أريد أن أسن سنة في الجرأة على السلاطين والكلام عليهم في مجامع الناس العامة.

يقول سماحة الشيخ ابن باز: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة بالمعروف، ويفضي إلى الخوف الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها لا حاكم ولا غيره، ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه -كل هذا من كلام الشيخ ابن باز- قال بعض الناس لـ أسامة بن زيد: ألا تنكر على عثمان.

قال: أنكر عليه عند الناس؟ لا، لكن أنكر عليه بيني وبينه، لا أفتح باب شر على الناس، ولما فتح باب الشر في زمن عثمان، وأصبحوا ينكرون على عثمان جهرة، ويتكلمون في عرض الوالي والخليفة الراشد في المجالس؛ تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي بسبب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس ولي أمرهم، وحتى قتلوه نسأل الله السلامة والعافية.

نعم أيها الأحبة! هذه أجوبة مسددة من إمام عالم مسدد قد شابت لحيته في الإسلام، وشهد له القاصي والداني بالحب، نحسبه من أولياء الله ولا نزكي على الله أحداً.

قال ابن مفلح رحمه الله: وقال ابن الجوزي: الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم يا من لا يخاف الله؛ فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شررها أو ضررها إلى الغير؛ لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه؛ فهو جائز عند جمهور العلماء، قال: والذي أراه المنع من ذلك انتهى كلامه رحمه الله.

نعم هنا حديث صريح صحيح وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه، فقتله) لكن هذا رجل دخل على السلطان وقام إليه وقال له كيت وكيت وكيت، اتق الله، يوجد كذا، لا يوجد كذا، يحصل كذا، وقع كذا، فحينئذ إن سمع منه وخرج فالحمد الله، وإن دحرج رأسه على الأرض فهذا المناصح شهيد بإذن الله عز وجل، وهذا أمر ينبغي أن نفقهه؛ لأن بعض الناس يقول: هؤلاء الذين يتكلمون عن حقوق ولاة الأمر لا يحبون أن يأتي أحد لينصح ولاة الأمور لا والله، بل نحن نحرص ونعلم أن هذا من صميم حقوق ولاة أمرنا علينا، أن ينتخب لمناصحة ولاة الأمور العقلاء، العلماء، أهل التجربة، أهل الكلام الحسن، أهل المداخل الطيبة، الذين يحسنون الحديث ويعرفون الحسنات ويقدرونها، ويعرفون الأخطاء والسيئات ويقدرونها قدرها، ثم يأتون ليناصحون (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله) نعم انظروا إلى كلمة (إمام) وكلمة (عند سلطان) من كان شجاعاً أو قوياً أو على درجة من العلم ويريد أن ينصح؛ فجزاه الله خيراً بالضوابط الشرعية والآداب المرعية.

وإننا نرى ولله الحمد والمنة أن هذا لن يحصل، أعني: لو قام أحد في بلادنا ودخل على الحاكم أو على أمير وقال له: اتق الله يوجد كذا أو لا يوجد كذا يسلم رأسه من الآن بإذن الله عز وجل، لن يقطع رأسه، يطمئن من ذلك، لكن الشاهد من الحديث أنه يكون هذا النصح مشروعاً إذا كنت في وجه الحاكم وجهاً لوجه، إلى إمام أو عند سلطان أما أن تجلس في أربعة جدران أو في جلسة خلوية وتجلس وتقول: الحاكم فيه والحاكم فيه والحاكم قال والحاكم فعل والحاكم صلح والحاكم زين ماذا ينفع الكلام مع الناس؟ بعض الناس لو ينقطع عليه الماء لا يستطيع أن يوصل ماء؟ بعض الناس لو انقطعت عليه الكهرباء لا يستطيع أن يصلح الكهرباء، تأتي وتكلم مساكين فقراء ضعفاء ليس لديهم خبرة ولا سالفة ولا حيلة وتكلمهم عن أخطاء الحكام؟! لا، هذا ليس من العقل وليس من المنطق بأي حال من الأحوال.

يقول ابن النحاس: ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رءوس الأشهاد بل لو كلمه سراً ونصحه خفية من غير ثالث لهما.

أي: كلما كانت النصيحة ما بينه وبين الحاكم سراً كلما كان هذا أفضل، والنصيحة يراد بها إبراء الذمة، ويراد بها إصلاح الأحوال، فأما إبراء الذمة فيقع بإبلاغ النصيحة، أي أنك تقول: والله أنا أريد أن أبرئ ذمتي، لا، لا تبرئ ذمتك أمام العامة أو أمام الناس، تريد أن تبرئ ذمتك ترفع برقية تذهب وتبلغ هذه الرسالة إلى من يصل إلى السلطان أو يدخل على السلطان، فتبرأ ذمتك بإذن الله عز وجل.

وأما الأمر الثاني من النصيحة فهو التحويل من حال إلى حال، أي إصلاح الأوضاع وإصلاح الأحوال من حال رديئة إلى حال جيدة، فأنت في هذا ما عليك إلا إبلاغ النصيحة وأما تغير الأحوال فبيد الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:٢٠] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:٧].