للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الدنيا وحقارتها]

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بكم في دار كرامته، أسأله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا ذاك المقام الكريم، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن أبواب الجنة، بقوله: (إن من أبواب الجنة باباً ما بين مصراعيه مسيرة ستمائة عام، وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظٌ بالزحام) نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.

والحديث -أيها الأحبة- مرتبطٌ غاية الارتباط بهذه المقدمة المباركة الموفقة التي توفق بها الشيخ/ عبد الرحمن سدده الله، ذاك أن الجنة هي جزاء عباد الله المتقين، جزاء عباده المتمسكين المهتدين بكلام رب العالمين، وسنة سيد الأنبياء والمرسلين، وإن أي عمل مهما بلغ ضجيج صوته، وكثرة الزحام حوله، وكثرة أتباعه، ما لم يكن مقيداً بعلم الكتاب والسنة فعلى خطرٍ أن يكون أصحابه كما قال جل وعلا: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:٣ - ٤] فلا أمان من الزلل، ولا نجاة من الهلكة إلا بتقييد وضبط هذا الحماس، وتوجيه هذه الصحوة بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أيها الأحبة في الله! خلق الله الدنيا وجعلها وما عليها إلى الفناء والزوال، أما الدنيا فلن يخلد فيها أحد، ولن يبقى فيها أحدٌ أبداً {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧] قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل وقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه الليل، وعزه استغناؤه عن الناس).

أيها الأحبة! هذه الدنيا مهما تزخرفت! ومهما تزينت! ومهما تعطرت وتطيبت لأصحابها فإنهم يعلمون لا محالة أنهم يفارقونها من النور إلى القبور، ومن السعة إلى الضيق، ومن الاجتماع إلى الفرقة، ومن الأنس إلى الوحشة، ومن اللذة إلى الكدر.

طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدارِ

ومكلفُ الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نارِ

يقول القائل:

أحب ليالي الهجر لا فرحاً بها عسى الله يأتي بعدها بوصالِ

وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل وصلٍ معقبٍ بزوالِ

أيها الأحبة في الله! نحنُ في دنيا أشغلتنا وألهتنا، ولعبت بأهوائنا، وأخذت منا جهدنا، حتى أصبحنا نضع لديننا فاضل أوقاتنا، ونضع لدعوتنا آخر اهتماماتنا، ونجعل لعقيدتنا آخر ما يبقى من فكرنا وذهننا واشتغالنا يقول ابن القيم في نونيته التي سنسير هذه الليلة معها شوطاً طويلاً:

لا يلهينك منزلٌ لعبت به أيدي البلى من سالف الأزمانِ

فلقد ترحل عنه كل مسرة وتبدلت بالهم والأحزانِ

سجنٌ يضيق بصاحب الإيمان لكن جنة المأوى لذي الكفرانِ

وصدق، ومصداق قوله قول النبي صلى الله عليه وسلم (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).

أيها الأحبة في الله! إننا ما عرفنا الدنيا حق المعرفة، وما عرفنا الآخرة حق المعرفة، وما عبدنا الله حق عبادته، وما قدرناه حق قدره، وما شكرناه حق شكره، ولو قمنا بذلك لادخرنا ساعة بل لحظة بل ثانية في طاعة الله وجهاد أعداء الله والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، من أجل الحصول على مرضات الله جل وعلا، إن كلمة الله لعباده في الجنة يوم يتجلى الجبار جلَّ وعلا، ويتجلى لعباده في الجنة، ويكشف لهم الستر، ويقول: يا عبادي قد رضيت عنكم، قد رضيت عليكم، أي بشارة هذه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:١١٩].