للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من الحقوق: توقير الأمراء والنهي عن سبهم]

أيها الأحبة! ومن حقوق ولاة الأمر توقير الأمراء والنهي عن سبهم، فذلك أمر عظيم يقول عبد الله بن المبارك: من استهان بالعامة ضيع مروءته، ومن استهان بالعلماء ضيع دينه، ومن استهان بالحكام ضيع دنياه.

وروى الترمذي وأحمد عن زياد العدوي قال: كنت مع أبي بكرة عند منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس لباس الفساق.

فقال أبو بكرة رضي الله عنه: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله).

ثم أنا أسألكم يا أحبابي! لو أن الواحد أغلق لسانه، وأغلق فمه، وما تكلم في السلطان بخير ولا شر، هل سيحاسبه الله يوم القيامة؟ لا، ولو دعا للسلطان دعوة صالحة فهذا هو الأوفق والأقرب والموافق لمنهج أهل السنة والجماعة، لكن الذين يتكلمون في السلاطين بالشر ويسبون ويتهكمون ويستهزئون ويسخرون هؤلاء والله يهدون أعمالهم إلى هؤلاء الحكام والسلاطين، لا تظن أنك حينما تستهزئ بملك أو أمير أو مسئول أو سلطان أنك بهذا تزداد رفعة وإن أعجب بك بعض من حولك من أصدقائك وزملائك، لكن ثق أنهم يعجبون بك ولكنك أنت تتصدق بحسنات أعمالك على هذا الحاكم الذي تسخر به أو تستهزئ به أو تتكلم عنه.

وأخرج ابن عبد البر في التمهيد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [كان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهون عن سب الأمراء -وفي لفظ- نهانا أمراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تعصوهم، واصبروا واتقوا لله عز وجل، فإن فرج الله قريب].

وأخرج ابن سعد في الطبقات عن هلال بن أبي حميد قال: سمعت عبد الله بن عكيم يقول: لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان.

فقالوا: يا أبا معبد أو أعنت على دم عثمان؟ هل أنت ممن أعان على دم عثمان؟ فقال: إني أعد ذكر مساوئه عوناً على دمه.

أي: كأن عبد الله بن عكيم قد عدد أو تكلم في عثمان وذكر أن من مساوئ عثمان كذا وكذا وكذا، ثم بعد ذلك ابن عكيم رضي الله عنه يستغفر ويقول: لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان.

قالوا: هل أعنت على عثمان؟ قال: إني أعد ذكر مساوئه إعانة على دمه.

ومعلوم -أيها الأحبة- أن هذا هو الحق والصواب، ومعلوم أن منهج أهل السنة في هذه القضية لا يصلح للطائشين ولا أصحاب الأهواء والمطامع؛ لما ينطوي عليه من اعتقاد الصبر والعمل به، لأننا أمرنا بالصبر مهما رأينا من أثرة أو رأينا من أحد أخذ ماله أو ضرب ظهره، أو رأى مسلم ما يكرهه، فإن الأمر مطلوب من المسلم أن يصبر على هذا الأمر، ومطلوب منا أن نناصح ولاة أمورنا بالحسنى.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة، ولا يرون قتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد من القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أدنى الفسادين بالتزام أعظمهما، ولعله لا تكاد تعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً: وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد في المدينة، وكـ ابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك في العراق إلى أن قال: وغاية هؤلاء إما أن يغلِبوا وإما أن يغلَبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقاً كثيراً، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم فلا أبقوا ديناً ولا أبقوا دنيا، والله لا يأمر بأمر لا يحصل فيه صلاح الدين ولا صلاح الدنيا.

وإن كان فاعل ذلك من عباد الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، ومع ذلك لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدراً عند الله وأحسن نية من غيرهم.

يقول ابن تيمية أيضاً: وكذلك أهل الحرة كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم، والله يقدر لهم كلهم، وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:

عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدت أطير

أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء.

وكان الحسن البصري يقول: [إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:٧٦]].

نكتفي بهذا القدر أيها الأحبة من حقوق الولاة وضوابط أهل السنة والجماعة في هذه الحقوق، أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يجمع شملنا، وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً، ونسأله أن يكون كلامنا وطرحنا لهذا الموضوع خالصاً لوجهه الكريم، لا نريد به غير وجهه عز وجل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.