للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة مع الذين يتعبدون بالصوم عبادة تخلص]

أيها الإخوة: عبادة التخلص ليست والله عبادة، بل هي ما يفعله بعض الناس إذ يجد ضغوطاً نفسية أو ضغوطاً اجتماعية فيضطر لأداء العبادة مع سائر الناس الذين يؤدونها، ويصعب عليه أن يخالفهم، وإن كان في حقيقة الأمر مؤمن بفريضته ووجوبه، لكنه يتمنى أن لو لم يبلغ هذا الشهر، ويتمنى أن لو لم يفرض هذا الشهر، ويتمنى أنه لم يحرم من الطعام أو الشراب، أو يتمنى أن لم يشرع القيام في هذا الشهر، فتراه يصوم وقد يقوم لأن الناس أمثاله يفعلون ذلك.

فهذه عبادة تخلص وليست عبادة احتساب، ففرقوا في هذه المسألة فالفرق واضح، والبون شاسع، وشتان بين أجر هذا وأجر أو وزر ذاك، شتان بين من يصوم احتساباً وغبطة وفرحاً، وبين من يصوم كراهية، وإنما يصوم وقوفاً أمام الأمر الواقع، وإن كان التخلص أصبح السمة لبعض المسلمين في عباداتهم، فتراه يكبر في الصلاة ويركع ويرفع ويسجد ويسلم، لا يفقه ولا يدري، ولا يعي ولا يتدبر، ولا يخشع ولا يخضع في صلاته، فهذه عبادة تخلص، وليست عبادة لذة واجتهاد واحتساب إلى ما عند الله.

كذلك الذين يصومون هذا الشهر في نوم طويل في النهار، مع ضياعٍ للمفروضات، وسهر عجيب بالليل مع جلوس أمام الأفلام والشاشات والمسلسلات وتتابع الحلقات، وهذا شأنهم، يعدون مائدة السحور ويتهيئون لمائدة الإفطار وما بينهما فهو نوم أو سهر على ما يسخط الله جل وعلا، والأعجب من ذلك -أيها الأحبة- أن بعضهم يمسك عما أباح الله ويفطر على ما حرمه الله جل وعلا.

نعم.

شرع الله أن نمسك عن المباحات كالنكاح والطعام والشراب وغير ذلك من سائر المفطرات، فالذين يصومون صوم التخلص يمسكون عن المباحات، لكنهم منذ أن يصبحون إلى أن يفطرون وهم على فطر ما انقطعت نفوسهم عن الإفطار على المحرمات خاصة بعد صلاة العصر، وليبلغ الشاهد الغائب ما نراه من خلو المساجد من الصائمين أين الصائمون؟ أين التالون لكتاب الله؟ أين المعتكفون؟ تجد كثيراً من المسلمين أمام الأفلام والمسلسلات والحلقات، أهذه عبادة؟ أهذه فرحة صائم ينتظر بعد لحظات أو سويعات أن يفرح فرحتين، فرحة فطره، وفرحة لقاء ربه؟ أهذه عبادة يا عباد الله من طلوع الشمس إلى زوالها أو إلى قرب العصر، والبعض تجده في نوم عميق وسبات وغطيط، فإذا صلى العصر في بيته أو مع الجماعة سحب أذيال الهزيمة بأقدام ثقيلة يعود إلى بيته لينظر هذه الأفلام والمسلسلات؟ ما هذا التناقض الذي يعيشه كثير من المسلمين في عبادتهم؟ أتصوم عما أباح الله من الطعام والشراب، وتفطر على ألوان صور النساء، وعلى مقاطع الموسيقى؟ أم تفطر على ما حرم الله جل وعلا؟ أي خداع نفسي نمارسه على نفوسنا؟ وأي غفلة نقع فيها؟ وأي استهتار؟ وأي تخلص من هذه العبادة نقضي به وقت الصيام على أي وجه كان، سواء على مرضاة الله أو على سخطه، على ما أحب أو ما شرع، على ما نهى أو ما زجر، لا والله بل إن الكثير منهم يقضون العبادة على ما زجر ونهى، ما الذي يبيح لك وأنت مفطر أو صائم أن تقلب عينيك في صورة امرأة؟ ما الذي يبيح لك وأنت مفطر أو صائم أن تتمتع جهلاً أو شيطنة بمقاطع الغناء واللهو؟ أتظن بعد هذا أن هذه عبادة ترفع؟ أم تظن أنك تنال بها أعلى الدرجات عند الله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:٢١]؟ أيستوي أهل الطاعة وأهل المعصية، وإن كانوا مع أهل الطاعات في ظاهر شكلهم وألوانهم في وقت الإمساك ووقت الإفطار؟ حاسبوا أنفسكم -يا عباد الله- وقدموا أعمالاً ترجونها عند الله جل وعلا، فلو كنت مديراً عاماً، أو رئيساً لدائرة أو مسئولاً عن قسم، ثم تابعت موظفيك في عمل من الأعمال لتنظر تقارير إنجازهم وأعمالهم، ورأيت عملاً مختلطاً، وعملاً مرتجلاً، وعملاً مزيفاً، أو فيه زيادة ونقص، وفيه تقريب وإبعاد، وفيه ألوان مختلطة لرميت بتقريره في وجهه، وقلت: أهذا عمل يستحق الموظف عليه راتبه، أو يستحق أن يكون في شرف الخدمة المدنية، أو يستحق أن يكون من الذين يحسبون على الطاقات العاملة في المجتمع؟ فلله المثل الأعلى.