للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الظلم]

من أوائل الأمور التي يحق عليها أمر الله على أمة من الأمم بالهلاك: الظلم؛ والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأظلم الظلم الشرك بالله جل وعلا، وهو: وضع العبادة وصرفها عمن يستحقها إلى من لا يستحقها، ولذلك قال الرجل الصالح لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣] ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الظلم درجات، فأعظم الظلم وأشده وأخبثه، وبه يكون هلاك الأعمال، وبه يكون إحباط العمل ألا وهو الشرك بالله، والكفر به جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] {مَثلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم:١٨] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:٣٩]، فإن من وقع في أعظم الظلم وهو الكفر، أو الشرك، فإن الله لا يقبل منه عدلاً ولا صرفاً، كما في الحديث: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)؛ لأن الله جل وعلا لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:١٣ - ١٤]، ويقول تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:٤٥] وقال سبحانه وتعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:٣٥].

الظلم -يا عباد الله! - بمراتبه المختلفة التي قال عنها شيخ الإسلام: إن أعظمها صرف العبادة لغير الله، ويليها درجة ظلم العباد بالتسلط على حقوقهم، وعلى دمائهم، وأعراضهم.

ثم يلي ذلك الظلم درجةً ظلم العبد نفسه بالذنوب والمعاصي.

فأما الظلم الأول: فكما قلنا: لا يقبل الله معه صرفاً ولا عدلاً، ولا يقبل من صاحبه قليلاً ولا كثيراً.

وأما الظلم الثاني: فلا بد لمن وقع فيه أن يتوب إلى الله، فمن وقع في الظلم الثاني ألا وهو أخذ حقوق العباد، والتسلط على حرياتهم وأعراضهم، ودمائهم وأموالهم، فلا يمكن أن يسلم من عاقبة وخيمة لهذا النوع من الظلم إلا من تاب إلى الله توبةً صادقةً نصوحاً، ورد إلى العباد ما ظلمهم وغصبهم، ونال من حقوقهم ومقدراتهم.

والظلم الثالث: وهو ظلم النفوس بالمعاصي والذنوب، فإن كانت ذنوباً تقع من غير إصرار فتلك مكفرة بآيتي النجم والنساء -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - ألا وهي قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:٣٢] والآية الأخرى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:٣١] فمن وقع في صغائر الذنوب من غير إصرار ومن غير استمرار؛ فذلك بإذن الله يكفره ما ورد في هاتين الآيتين، وتكفره أعماله الصالحة؛ من الخطى إلى المساجد، والوضوء، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والصلاة مع الجماعة، والاستغفار، والحسنات الماحية للسيئات، ومن أصرَّ على الذنوب إصراراً فلا بد أن يقلع؛ لأن من أصرَّ على صغيرة كانت في حقه كبيرة، ومن فعل كبيرةً ثم تاب عنها محيت عنه بفضل الله ومنه وكرمه.

فعلى أية حال: لنعلم أيها الأحبة! أن تسلط العباد على أنفسهم سببٌ لهلاكهم في الجملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولنعلم أن من أخبث الظلم: ظلم العباد، وأخذ أموالهم وأراضيهم، ومقدراتهم وحقوقهم، هذا الظلم الذي شاع في عصرنا وفي زماننا هذا، وأصبح الناس لا يهمهم إلا ترتيب حيلة تنطلي على الحكام الذين يقضون بين الناس حتى ينالوا بها أموال غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا من أخبث أنواع الظلم بعد الشرك:

تنام عينك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعين الله لم تنم

النبي صلى الله عليه وسلم قال ل معاذ: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨]، فالظلم شأنه خطير حتى ولو ظلمت كافراً من الكفار، والله! لو ظلمت كافراً من الكفار فلينتقمن الله له إن هو دعا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:١٤]، لا يعزب عن علمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.

إذاً: فالتسلط على حقوق العباد لضعف، أو لمسكنةٍ هم فيها، أو لأنهم لا جاه لهم، لا سلطان ولا منزلة، هذا أمرٌ واقعٌ في هذا الزمان، واقعٌ في كثير من أمم الأرض، التسلط على الضعفاء، التسلط على المساكين، الوشاية بالأبرياء، من أخبث أنواع الظلم أن تشي، وأن تقول: في فلان بن فلان كذا وكذا، وهو خليٌ مما رميته وبهته به، فهذا من أعظم الظلم لعرضه، والله جل وعلا منتقم، والله جل وعلا بالمرصاد، والظلم مكيال؛ بقدر ما تظلم فإن الله يستوفي لك استيفاءً وافياً كاملاً، ويزاد على ذلك عقوبة من الله بسبب جرأة عبده على ظلم غيره.

الظلم يا عباد الله! أمرٌ خطيرٌ جداً، وبه يحصل هلاك الأمم، ضرب البرامكة ونكبوا نكبةً عظيمةً خطيرةً حتى أصبحوا من سوقة الناس وعامتهم، وبالأمس كانوا في قصور الملوك والخلفاء، فجاءت واحدة من بنياتهم تحدث أمها، تقول: يا أماه! ما الذي حول بنا الأحوال، وغير بنا الأمور حتى صرنا إلى ما نحن فيه؟ فقالت: يا بنية! دعوة مظلوم سرت بليل، ونحن عنها غافلون، ثم أنشدت:

رب قومٍ أمنوا في نعمةٍ زمناً والدهر ريان غدق

سكت الدهر زماناً عنهمُ ثم أبكاهم دماً حين نطق

ولا حول ولا قوة إلا بالله! فإني أحذر كل مسلم من أن يظلم واحداً من إخوانه في عرضٍ أو مالٍ، أو في قليلٍ أو كثير، ومن أخبث هذا أن يشي، أو ينقل المسلم عن أخيه شيئاً ليس فيه، أو أن يزور ويعظم في شأنه أمراً ليس فيه، فإن هذا من أخبث أنواع الظلم، ولقد رأينا مصارع الظالمين في هذا الزمان، والله لقد عرفنا ممن تسلطوا على أهل الخير، ممن تسلطوا على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فكان همهم وجل اهتمامهم أن يتتبعوا زلاتهم، وأن يتربصوا بهم الدوائر، فما كانت العاقبة إلا أن يحيق المكر السيء بأهله، وعلى الباغي تدور الدوائر، ولا نقول هذا شامتين، نعوذ بالله من الشماتة، لا يشمتن مسلمٌ بأخيه فيبتلى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

إذا ما الدهر جرَّ على أناسٍ حوادثه أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا

والله لا نشمت، لكنا رأينا مصارع الظالمين، وأقولها وعن تجربة: والله! إن من ظُلم في باب الوشاية والنقل السيء عنه، فعليه بآخر الليل، وعليه بالوتر، وعليه بالدعاء في السجود، والقنوت، والله لينتقمن الله لك ممن ظلمك حتى يفضحه بين رءوس الخلائق؛ لأن الظلم معصية متعدية، رب نوع من الذنوب والمعاصي تكون قاصرة، فالذي يفعل معصية من المعاصي القاصرة على نفسه، لاشك أن وزرها وإثمها عليه، وعاقبتها وخيمة، لكن من اقترف مظلمة تتعدى إلى واحد من المسلمين، سواء في عرضه، أو في ماله، أو بالوشاية عنه، أو في دمه، أو في التسلط عليه، فوالله لينتقمن الله منه، وأخبث الظلم ظلم الضعفاء، هذا أسلوب يمارسه الجبناء، أهل الخسة والدناءة الذين يظلمون الضعفاء، الذين يجدون أقواماً.

أو بعض أقوامٍ ليس لهم سلطان، ولا نصير إلا الله جل وعلا، ونعم المولى ونعم النصير، فأولئك يوم أن يظلموا هؤلاء الضعفاء، والله! إن لهم من الله عقوبة عاجلة في الدنيا، وبلاء وعذاباً مستطيراً في الآخرة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى في أول سورة النساء لما بين شأن أولئك الذين يُوَلَّون أمور الأيتام والوصاية عليهم، قال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:٩] اتق الله في الآخرين يحفظ الله ذريتك من بعدك، إذا أردت أن تسلم ذريتك، أن يسلم أطفالك، أن يسلم أهلك وأولادك من بعدك، فاتق الله في الآخرين تحفظ ذريتك من بعدك: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:٨٢] صلاح أبيهما، وهذا الصلاح يعني: السلامة من الظلم، سَخَّر الله له نبياً من الأنبياء يبني جداراً ليحفظ مال هذين اليتيمين: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:٩ - ١٠] والله ما من إنسان يَقْدُمُ على الظلم إلا وهي بداية الهلاك، والفلس، والنهاية، والخراب، له ولماله ولبيته.

فيا عباد الله! لننتبه إلى هذه المسألة، ولنحذر منها، وإذا رأينا ظالماً متسلطاً على مسلم فقير لا حول له ولا قوة، فلنجتهد في أن نذهب له، وأن نخوفه بالله.

أعرف قصةً حصلت: رجل في قرية من القرى اشترى بئراً، ولها حريمها بحق التملك، فلما اشتراها أخذ يبسط نفوذه يمنةً ويسرةً على أراضٍ للفقراء والمساكين من حولها، فما كان لهم نصيرٌ إلا الله، فما تركو