للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغرباء الحقيقيون]

الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراٌ بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أرد أن يذكر أو أراد شكوراً، نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، ونشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له جل في علاه، تبارك اسمه وتقدست أسماؤه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

معاشر المؤمنين! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) في روايات أنهم: (الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون إذا فسد الناس) معاشر المؤمنين! معاشر الأحبة في الله! لو تأملتم هذا الحديث لوجدتم مصداقه من الواقع دليلاً من دلائل معجزات نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالغرباء في هذا الزمان هم المؤمنون حقاً، وغربة المؤمنين من بين سائر الناس واضحة جلية فالمسلمون غرباء من بين سائر أمم العالم وشعوبه، المسلمون الذي هم على دينٍ صحيح وعلى ملة نقية، وعلى عقيدة واضحة، وعلى محجة صالحة، وهم غرباء من بين سائر الأمم والشعوب في هذا الزمان، ولا يغركم كثرة الإحصائيات؛ لقول الله جل وعلا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦] تعداد الملايين من المسلمين ولو نقبت ودققت وكشفت أحوال الكثير منهم لوجدت عجباً عجاباً، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تعبد الله بغير ما شرع، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تظن أن القبور والأضرحة تنفع وتضر من دون الله، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تظن أن الأولياء والأقطاب والأوتاد والأبدال منازل لا يدركها الملائكة ولا المرسلون، أين حقيقة الدين من تلك الأمم؟ أين حقيقة الإسلام في تلك الشعوب؟ إذاً: فالإسلام النقي الصافي غريبٌ بين شعوب الأرض، وهذا أمرٌ واضح، وإذا تأملت تعداد المسلمين وجدت الذين يحافظون على الأركان والفرائض غرباء من بين سائر المسلمين، فما أكثر أن تلقى أناساً ينتسبون إلى الإسلام بجوازاتهم أو بحفائظ نفوسهم أو بهوياتهم ولكن انتسابهم إلى الإسلام انتساب الصورة لا الحقيقة، انتساب الشكل لا المضمون، انتساب القالب دون القلب.

فيا عباد الله! كم رأينا من المسلمين يدعون الإسلام وهم يتعاطون الربا، وكم رأينا من المسلمين الذين يدعون الإسلام وهم يفعلون الزنا، كم رأينا من المسلمين ينسبون إلى الإسلام وهم يشربون الخمور، كم رأينا من بعض شباب المسلمين ينتسبون إلى الإسلام والصلوات لا يعرفونها إلا قليلاً، كم رأينا من المسلمين من ينتسب إلى الإسلام وهو لا يراعي الحلال والحرام في بيعه وشرائه، في إنفاقه واكتسابه.

إذاً يا عباد الله: المسلمون المطبقون لأحكام دينهم ولأركان ملتهم هم غرباء من بين سائر المسلمين على وجه البسيطة، وإذا تأملت هؤلاء الغرباء وجدت فئة هم أخص منهم بالغربة، أولئك الذين يعملون بهذه الأركان وهذه الفرائض على وحي من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى نهج وهدى من شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالمتمسكون بالسنة العاملون لها المقدرون لجلالها هم غرباء من بين سائر المسلمين على وجه هذه البسيطة، وإذا تأملت أولئك وجدت الذين يدعون إلى الله بما عملوا وعلموا غرباء من بين سائر المسلمين.

وإذا تأملت أولئك وجدت طلبة العلم والعلماء غرباء من بين سائر المسلمين، ثم إذا دققت وفحصت وجدت الدعاة إلى الله بما يعلمون هم غرباء من بين سائر أولئك العلماء، وإذا تأملت أكثر وجدت الذين يصدعون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم غرباء من بين سائر الدعاة، وإذا تأملت أحوال الأمم والدول وجدت الأمم التي تحكم شريعة الله أو وجدت الأمة التي تحتكم إلى كتاب الله غريبة من بين سائر الأمم، تنتقد إذا قطعت رقبة القاتل، وينالها من الكلام إذا قطعت يد السارق، وينالها من التعليق والتشويه إذا قتلت المفسدين المخربين، إذاً فالأمة التي تحكم كتاب الله غريبة من بين سائر الأمم في هذا الزمان، وصدق الحسن البصري رحمه الله حين قال: [الناس هلكى إلا العالمون فهم غرباء بينهم، والعالمون هلكى إلا العاملون فهم غرباء بينهم، والعاملون هلكى إلا المخلصون فهم غرباء من بين سائر الذين يعلمون، والمخلصون على خطرٍ عظيم].

نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه وتوحيده إلى أن نلقاه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.