للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

توبة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً

الأمر الآخر: يوم أن يجيء عبد من المذنبين طائعاً مختاراً مقبلاً راضياً غير مكره، فمن ذا يحول بينه وبين التوبة؟ أولسنا نعلم أن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً كما في الحديث الصحيح؟! فلما جاء إلى راهب وشكا إليه ما قال له، قال: لا نرى ولا نجد ولا نعرف لك توبة بعد فعلك هذا، فما كان منه إلا أن أخرج تلك الشفرة وذلك الخنجر الذي حزه على تسعة وتسعين نفساً فأكمل به على رقبة الراهب تمام المائة، وخرج هائماً على وجهه، ثم قصد عالماً من العلماء -وفي القصة فرق بين الرهبان والعلماء- فلما جاء إليه وأخبره، قال: إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ وكأنما هو يلوح بالتهديد ليضيف رقم الواحد بعد المائة، فقال ذلك العالم: ومن ذا يغلق باب التوبة دونك؟ إن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، لا يغلق إلا يوم أن تطلع الشمس من مغربها، ولكن إن كنت تائباً مقبلاً، فالحق بأرض بني فلان فإن فيها قوماً يعبدون الله، فقبل الرجل النصيحة ووسعته الموعظة وعمته الهداية، وذهب إلى أرض بني فلان تائباً عائداً نادماً، فأدركته المنية قرب منتصف الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة العذاب: عبد مذنب أسرف في القتل والذنوب، وقالت ملائكة الرحمة: عبد جاء طائعاً تائباً مختاراً، فكان بينهم ومِن أمرهم أن يقيسوا أي المسافتين إلى خطوه أقرب، فأوحى الله إلى أرض الرحمة أن تقاربي، وأوحى الله إلى أرض المعصية أن تباعدي، فكان من الذين أدركتهم رحمة الله.

لما جاء طائعاً مقبلاً مختاراً تائباً إلى الله، أوحى الله إلى الأرض بأن تزحف وتتزعزع، أوحى الله للأرض أن تجر أذيالها، تدنو من أجل عبد جاء تائباً مقبلاً مختاراً قاصداً وجه الله جل وعلا ورحمته التي وسعت كل شيء.

أفنظن يا معاشر العباد أن من أذنب ذنباً تضيق به رحمة الله؟ لا والله، إذاً فلا يترددن عبد في التوبة ولا يترددن عاصٍ بالإنابة، ولا يترددن خاطئ في الرجوع، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، وإن رحمة الله سبقت غضبه، وإن رحمة الله قريب من المحسنين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.