للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإسلام دين العزة]

أيها الأحبة: ديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم نلبس إلا رديء الثياب، وديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم يكن لنا في الأرصدة ريال ولا دينار ولا درهم، يعلمنا أننا الأعزاء وإن لم ننل شيئاً من المناصب والرتب ويعلمنا أننا الأعزاء وإن لم نرتبط بأنسابٍ وأحسابٍٍ يفاخر بها أهل الجاهلية، ديننا يعلمنا أن العزة فيمن تعلق بالعزيز وحده لا شريك له؛ فربنا يعلمنا الإقدام والثبات في مواطن اليأس، موقنين أن الله العزيز القوي معنا، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:١٠٤] ويقول سبحانه: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:٣٥].

لا تكن ذليلاً خواراً جباناً ضعيفاً، بل كن علياً شامخاً بإيمانك قوياً باعتقادك، مم يخاف المسلمون وهم يملكون أعظم شيء وهو الإيمان؟ القوة التي تتحطم عليها قوى الفساد والشرك والإلحاد، مم نخاف والله معنا ناصرنا ومؤيدنا؟ هذا موسى لما قاس أمر مجابهة فرعون بمقاييس البشر، قال: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:٤٥] فجاءه الأمان من الله، إن الله معك، إن الله ناصرك، إن الله مؤيدك وحافظك، قال: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦] ولما رأى موسى قوة وجبروت وعزة وملأ وجند فرعون، وهيله وهيلمانه، أصابه شيءٌ من الخوف أو التردد، نعم هو رأى اجتماع القوم وعدتهم: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:٦٤] قومٌ علوا وعزّوا بالباطل، وهكذا هم أهل الباطل يتعززون بأنفسهم وقواهم، فجاء لموسى من ربه: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:٦٨] يا رب! هم ملايين وأنا واحدٌ، فيقول الله له: ((لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)) [طه: ٦٨] يقول: يا رب! هم أقوياء وأنا ضعيف، فيقول الله له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:٦٨] أنت الأعلى بإيمانك، وأنت الأعلى لأن الله معك، هكذا الإسلام يدعونا للعزة ولرفع الذل والمهانة والدون.

ليست هذه دعوةٌ -يا عباد الله- إلى بغيٍ وطغيان، وإنما الإسلام يريد أن نكون معتزين بأنفسنا وبإيماننا، ولن يكتفي ديننا بتحريضنا على إباء الضيم وإيثار العزة تحريضاً يقوم على الأمر الصريح أو التوجيه المباشر، بل عمد إلى ضرب القصص من الأمم الماضية التي رفضت التنازل عن المبادئ والعقيدة، لم تهن ولم تضعف ولم تستكن، بل صبرت وصابرت وكافحت وناضلت حتى ظفرت وانتصرت {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٤٦ - ١٤٨] ها هو الإسلام يريد من المسلم أن يتنازل ويتخلى ولو عن الوطن ومكان الأهل وملاعب الصبا ومراتع الطفولة، إذا كان البقاء في ذلك يورث الذل والمهانة والقهر:

حبك الأوطان عجز ظاهرٌ فاغترب تلق عن الأهل بدل

ليهاجر وليرحل إلى مكانٍ يجد فيه العز والحرية، حتى ولو كانت أحب الديار إليه، وأقرب مثالٍ على تحقيق ذلك: هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهجرة أتباعه معه، من أحب البقاع إلى أنفسهم، هجروا الأموال والأوطان، بل والأولاد، كل ذلك كي لا يصيبهم في دينهم ذلٌ أو مهانة:

لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس العلقم

ولذلك عاب الله عز وجل على قومٍ عاشوا بين ظهراني الكفار وديارهم، فقال سبحانه لأولئك الذين عاشوا في ديار الكفار أذلاء ولم يهاجروا طلباً لعزة الإسلام وعزة العبادة، قال تعالى في شأنهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء:٩٧] بم ظلموا أنفسهم؟ بالبقاء بين ظهراني المشركين، {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:٩٧] إلا أن الله برحمته الواسعة عذر العاجزين الذين يفقدون القدرة على الانتقال، ولا يجدون وسيلة أو يهتدون حيلة، فقال سبحانه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:٩٨ - ٩٩] وهذا التعبير يشعر بكراهية الإسلام للمسلم أن يحتمل الهوان والذل، وذلك استنهاض للهمم حتى تبذل الجهد كله في التخلص من الهوان بأصنافه، هكذا الإسلام يريد المؤمن أن يعيش في عزةٍ وإباء وكرامة، لا ينزل مع الظالمين أو الضالين، ولا يسقط في التفاهات، بل يترفع عن المغريات، ويحفظ نفسه من المستنقعات الشركية والدنيوية.