للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منبع العزة عند المسلم]

إن عزة المسلم تصدر من إيمانه وتنبع من ذاته، لا من الأشياء التي يمتلكها، فمن يكون مؤمناً فهو عزيز، ولذلك قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:١٣٩] متى يحصل هذا العلو؟ متى تتحقق هذه العزة؟ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩] {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون:٨] فهي لأهل الإيمان والإسلام دون غيرهم، بغض النظر عن أي شيءٍ أو وصف آخر، هذا ما فهمه المسلمون.

وإليك هذا الحديث الذي رواه الحاكم وغيره في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه، حينما ذهب حكيم بن حزام إلى السوق فوجد حلةً تباع، فقال حكيم: لمن هذه؟ فقالوا: هذه حلة ذي يزن، ملك من ملوك اليمن، فاشتراها بخمسين ديناراً ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهداها إليه، فلبسها صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر بها فما رؤي من ذي حلة أجمل منه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، ثم خلعها لأنه معرضٌ عن الدنيا، وألبسها أسامة بن زيد، ألبسها حبه وابن حبه ومشى بها في السوق، فرآه حكيم بن حزام وكان قبل إسلامه، فتعجب حكيم من أسامة الرجل الأسمر الصغير أبوه مولىً لرسول الله ومع ذلك يلبس حلة ذي يزن، فقال أسامة بن زيد: نعم والله لأنا خيرٌ من ذي يزن وأمي خيرٌ من أمه، وأبي خيرٌ من أبيه.

إذاً: أسامة الشاب الصغير الذي استصغره الناس سناً ونسباً وشكلاً، يشعر أنه أعظم منزلةً من ذي يزن ملك اليمن، لا لشيء إلا لأنه مسلمٌ وهذا كافر، وهذا هو مصدر العزة، إذا أيقن به المؤمن عانقه شعورٌ بالرفعة والقوة والفخر {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:٢٢١] وإذا أيقن المسلم بهذا أنف أن يخضع لغير الله، واستنكف أن يذل أمام سواه، فلا يتضعضع أمام قهر، ٍ ولا يهون أمام فقرٍ، وكأنه يردد قول القائل:

أيدركني ضيمٌ وأنت ذخيرتي وأظلم في الدنيا وأنت نصيري

فعارٌ على راعي الحمى وهو قادرٌ إذا ضاع في البيداء عقال بعير

الإيمان يجعلك في موقف العزة التي لا تقبل شكاً ولا تردداً، لأن المؤمن يأوي إلى ركنٍ شديد، وإلى منهجٍ صادقٍ واضحٍ جليٍ سديد، وإلى فعلٍ حميد.

الإيمان هو الذي جعل إبراهيم عليه السلام في موقف القوي، ليقول للكثرة الكافرة التي أججت النار لتحرقه بها، يقول لهم وهو الذي قيد وربط ليرمى في النار، يقول لهم في كل عزةٍ: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء:٦٧] ليجعل الله الخسار والذلة لمن عاداه: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:٧٠] كذلك يكون المؤمن معتزاً، يرى أنه القوي وأعداؤه الضعفاء، لا يتردد ولا يداخله الشك، ولا تهزه ألوان الأذى ولا التهديد، كل ذلك إذا تغلغل الإيمان فيه.

ها هو فرعون يهدد السحرة الذين انقلبوا عليه بين عشيةٍ وضحاها، فقال يهددهم: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:١٢٤] فماذا كان جواب أهل العزة الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فانقلبوا منذ أن كانوا من قبل سحرة، انقلبوا إلى أعزاء بالإيمان، فماذا قالوا؟ {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢] لماذا؟ ما الذي جعلهم ينقلبون بهذا التحول الخطير؟ {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:٧٣] السبب أننا عرفنا الحقيقة، والسبب هو الإيمان وحده ولا شيء غير الإيمان.

إن قوة الإيمان تتضاءل أمام عزتها وقوتها قوة الشرق والغرب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:٤٤] إن أي عزة تقوم على غير الإيمان بالله فهي عزةٌ واهية باطلة منقضية فانية متصدعة، وإن أي رفعة ومنعةٍ وقمةٍ وعلو تكون بغير الله، فهي زائلة عما قليل، تحول وتزول وتنتهي، حتى وإن استمرت في بغيٍ وطغيان، ولذا أبشركم بسرعة تصدع العزة الباطلة، وعزة الغرب بالباطل التي يتغطرسون بها على أمة الإسلام، يجوعون شعوباً ويدمرون آخرين، ويضربون دولاً ويحبسون المياه ويثيرون الفتن، ويحاربونهم بالاقتصاد ويسلطون الأفلام ويفسدون الإعلام ويخربون العقول، هم الآن يعيشون حالةً من عزة السيطرة في زمن العولمة، ولكن اسمعوا قول الله عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:١٩٦ - ١٩٧] مهما علا وتكبر فإن مصيره الهلاك ومصيره العقاب والبوار والدمار، لماذا يكون مصيرها هكذا؟ لأنها أممٌ قامت وعلت على الظلم والشرك والإفساد، والله لا يصلح عمل المفسدين.