للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العزة الكاذبة]

أيها الأحبة في الله: حينما نجول في القرآن الكريم، نجده يتحدث عن أصناف من الناس ظالمٍ غاشمٍ أخذوا العزة الغاشمة الزائفة، ويظنون أنهم في عزةٍ ثابتةٍ مستقرة، كما أخبر الله عن شأن بعض الطغاة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:٢٠٦] أي: حملته عزته الكاذبة الجائرة والتي هي شبيهةٌ بحمية الجاهلية، حملته على الإثم المنهي عنه، وأغرته بارتكابه، فماذا كان جزاؤه؟ {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:٢٠٦] المؤمن إذا قيل له: اتق الله، ذل وخضع لله فازداد بذلك عزة، والكافر إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، إن الله قال لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:١] وكان عمر بن الخطاب إذا قيل له: اتق الله، ارتعدت فرائصه وخاف وارتجف، والظالم والفاجر والفاسق إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، فشتان بين عزة هذا وهذا، وشتان بين استقبال هذا وهذا للأمر.

هذا صنفٌ آخر من الناس اعتزوا وافتخروا بالمال وبالحدائق وبالذرية وبالأنساب، فأنساهم ما هم فيه من رفعة المال والقوة أن يعرفوا خالقهم، لما ملكوا ما ملكوا وجرت الأنهار من تحتهم وأينعت الثمار في نخيلهم ورأوا الفواكه تتدلى أغصانها في بساتينهم، اعتزوا عزة حمية الجاهلية، واستغناء عن الله {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف:٣٤] {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} [الكهف:٣٥] انظروا إلى أي درجةٍ بلغت به عزة الطغيان والظلم والاستغناء! ماذا كان نتيجته بعد حوارٍ من صاحب يحاوره؟ يقول له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:٣٧] أي عزةٍ تتعلق فيها؟ أي استغناءٍ أنت فيه من ربك الذي خلقك من تراب؟ (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:٣٧ - ٣٨] ولو أنك يا هذا الذي غرتك دنياك وثمارك وأنهارك {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف:٣٩] يطول الحوار ويطول الجدال ويتردد السؤال، ومع ذلك هذا الذي استغنى بأنهاره وثماره وأشجاره، ما كان خبره؟ وما هي نتيجته؟ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:٤٢] أين من اغتر به؟ أين أنهاره؟ أين أنصاره؟ أين أعوانه؟ أين جنده؟ أين خدمه؟ أين حشمه؟ {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} [الكهف:٤٣] هذا شخصٌ نسب النعمة لنفسه واعتز بما عنده، حتى ابتلي وفتن بالأموال، {إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:٧٦] يذكره الذاكرون، يذكره الذين يخوفونه، لا تفرح ولا تطغى ولا تبطر ولا تمش في الأرض مرحاً، ولا تتكبر على الناس فما كان جوابه؟ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:٧٨] فما كانت نتيجته؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [القصص:٨١] وأبشروا عما قريب سيخسف الغرب بدورهم ولن يكون لهم من دون الله نصيراً، وأبشروا عما قريب هذه الأمم وهذه النظم التي تسلطت على المسلمين طولاً وعرضاً، شرقاً وغرباً، والله لن يكون لهم نصيرٌ من الله إذا حق عليهم عذاب الله ووعيده.

نعم.

ذهبت الأشياء والعدد والأعوان التي اعتز بها الظالمون والمعتدون على الخلق، هؤلاء الذين اعتضدوا على غير الله وجعلوا عزتهم بالناس، وجعلوا عزتهم بالآلات أو بالذرة، أو بالإلكترون أو بالإعلام أو بالقناة الفضائية، أو بالعولمة أو بأي شيءٍ أرادوه، ستنقلب عليهم ضداً {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:٨٢] لقد جاء السحرة معتزين مغترين بعزة العبد الذليل فرعون، نعم فرعون لديه عزةٌ وقوةٌ ومنعةٌ لكنها جاهليةٌ زائلة باطلة؛ جاء أتباعه {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:٤٤] ظنوا أنهم قد تحصنوا بأمنع الحصون، فماذا كانت النتيجة؟ {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:٤٥ - ٤٦].

إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر

هذا هو الكاذب الجاحد المخرف، لماذا يعبد الأصنام؟ لماذا يشرك بالله؟ {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [مريم:٨١] اتخذوها تعززاً وتقوياً، فماذا كانت النتيجة؟ {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:٨٢] والمراد بالضد هنا: ضد العز وهو الذل، أي: يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه، كأنه قال: وتكون الآلهة عليهم ذلاً ووبالاً، لماذا يجادل أهل الباطل عن باطلهم؟ والكفار عن كفرهم؟ وهذه الحرب الفكرية الإعلامية لماذا يتسلطون بها؟ السبب في ذلك عزةٌ زائفةٌ يشعرون بها ويجادلون لأجلها، وصدق الله العظيم: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:٢] هذا أحد المنافقين يقول: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:٨] فيدعي لنفسه أنه هو الأعز، ورسولنا صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، يزعم المنافق أنه الذليل، وكذب وأيم والله!

فما حملت من ناقةٍ فوق ظهرها أعز وأوفى ذمة من محمد

فهذا المنافق ينسب الذلة إلى رسول الله، عبد الله بن سلول رأس النفاق، فماذا كانت النتيجة؟ يقف له ابنه المؤمن على باب المدينة قائلاً: لئن لم تقر لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك ولو كنت أبي، فقال ابن سلول: ويحك أفاعلٌ أنت؟! قال: نعم.

فلما رأى منه الجد، قال: أشهد أن العزة لله ورسوله، نعم.

الآن آمن وقال ونطق كما قال فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:٩٠].