للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور من البر وحسن الخلق ونقائض ذلك]

إن البر ليس تفتيتاً للصخور إن البر ليس حملاً للجبال أو نقلاً لها إن البر ليس نقلاً للمياه إلى أعلى الجبال إن البر ليس تقسيماً للأموال، وإنما هو طلاقة في الوجوه وكلام لين، روى الترمذي، عن عبد الله بن المبارك أنه وصف حُسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى.

وقال جرير: [ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي].

بل إن بعض الناس لا تجده متبسماً أمام الآخرين، بل تجده يسخط ويغضب وينزعج ويقول: فلان أمره عجيب! كلما قدمت عليه تبسم في وجهي، فأي صلة بيني وبينه؟ وأي علاقة بيني وبينه؟ في كل حال إذا رأيته رأيته متبسماً!! أي أن بعض الناس لا يُحرم على نفسه البشاشة بل تجده يُنكرها حتى على من يُقابله بها والعياذ بالله، بل إن بعضهم إذا تبسمت في وجهه قال: متى المعرفة؟ وبعضهم إذا أطلقت أو لنت في الكلام معه قال: يبدو أنك طولتها أكثر من اللازم! وأنت لا تقصد إلا التحبب والتودد إليه فسبحان الله! إن هذه الأخلاق لهبات وصلات ومنازل ودرجات، فمن نالها نال خيراً كثيراً، وحسبكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم لا يفطر، ودرجة القائم لا يفتر) وقال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة؟ فقال: (تقوى الله وحسن الخلق).

إن الناس مهما كثرت صلاتهم، فهي لهم يوم القيامة، لن يعطونا منها شيئاً، وجزاهم الله خيراً وأكثر من أمثالهم وتقبل منهم، وما أجمل سعيهم! وما أطيب صلاتهم وركوعهم وسجودهم! لكنهم لن يُعطونا من صلاتهم شيئاً، وما أجمل صيامهم! وإن عبادتهم لمما يرحم به الله الأمة، ولكنهم لن يعطونا من عبادتهم شيئاً، الذي يتعلق بنا تعلقاً مباشراً من أعمالهم ألا وهو -مع حبنا لهذا الخير الذي يعملونه- طلاقة الوجه البشاشة حسن الخلق لين الجانب التواضع المودة المحبة الإقبال بالوجه على الوجه عند اللقاء والسلام.

أذكر ذات يوم أني دخلت دائرة من الدوائر الشرعية، فقابلت رجلاً توسمت فيه خيراً فبدأته بالسلام وحييته به ومددت كفي مصافحاً له فإذا به -سامحه الله وجمعني به وإياكم في الجنة- يقابلني بوجه مكفهر، مقطب الجبين، ويسلم سلاماً رخواً ميتاً بارداً فتركته حتى خرج من تلك الدائرة، ثم أدركته قبل أن يبتعد عنها كثيراً، فقلت له: يا فلان هل تعرفني؟ قال: لا.

قلت: وما يضيرك أنك لا تعرفني؟ -أردت بقولي: هل تعرفني أي: هل سبق بيني وبينك عداوة؟ هل بيني وبينك شيء من المواقف التي تدعو إلى عدم الانبساط وعدم البشاشة؟ - قال: لا أعرفك.

قلت: إذاً لم يحصل بيني وبينك موقف كرهتني فيه أو كرهتك فيه؟ قال: لا.

قلت: يا أخي الكريم لماذا لا تحسن أخلاقك؟ لماذا لا تنبسط؟ لماذا لا تتبسم؟ لماذا لا تمد يدك مد الرجال عند المصافحة؟ لماذا لا تضع عينك في عين من أقبل عليك محبة وهشاً وبشاً به؟ أما أن تجد من الناس مَنْ إذا سلَّم عليك يده في اليمين ووجهه في السقف، أو يُعطيك يداً ويده الأخرى يصلح به شيئاً من حذائه، والرابع يُسلم عليك ولا يلتفت لك بأي حال من الأحوال.

إن عدم التفات هذا إلى حُسن الخلق لن يضيرك ولن يضيرني لكنه سيضيره هو، إنه يحرم نفسه خيراً كثيراً، وبوسع العبد إذا خرج من بيته أن يعود بحسنات أمثال حسناته في صلاته وصيامه، وأمثال حسناته في صدقاته وذلك بحسن خلقه ولين جانبه وتواضعه، ومحبة الخير لإخوانه المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) رواه الإمام مسلم.

وروى الخرائطي عن أبي عون الأنصاري قال: [ما تكلم الناس بكلمة شديدة إلا وإلى جنبها كلمة هي ألين منها تجزئ عنها] أي: أن الواحد مهما شدد في العبارة فإن بوسعه أن يختار من مفردات اللغة ومن جُملها ما يُفضي إلى تحقيق المقصود، وما يفضي إلى المرغوب دون الحاجة إلى الكلمة الشديدة، وكل أمر من الأمور لك أن تُعبر عنه بكلمة طيبة، ولك أن تعبر عنه بمعنىً مقبول:

تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

ذماً ومدحاً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير

في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير

العسل إن تشأ قلت: ذا قيئ الزنابير، وإن تشأ قلت: هذا شهد النحل أو تقول فيه وصفاً جميلاً، ومن الذين يعتنون بحسن الخلق؟ من تراهم ينتقون العبارة الجميلة، يُقال: إن هارون الرشيد قال ذات يوم لأحد أبنائه وفي يده سواك: ما جمع هذا يا ولدي؟ فقال أحدهم: محاسنك يا أمير المؤمنين.

وقال للآخر: ما جمع هذه يا ولدي؟ قال: جمعها كِعاب الأسنة.

لم يقل: مساويك، خشية أن يكون الجمع فيه عبارة تدل بلفظ لا يليق أمام أمير المؤمنين أو أمام والدهم.