للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تقسيم العصاة إلى مستور ومفضوح]

قال ابن رجب في تفصيل الكلام الذي مضى حتى لا يظن بعض الإخوة أن هذه دعوة لترك الفساد والمنكرات، وتهوين شأن أهل الحسبة والهيئات، والتثريب عليهم فيما يفعلون من الإمساك بالعصاة- يقول ابن رجب في تفصيل هذه المسألة: واعلم أن الناس على ضربين: أحدها: من كان مستوراً لا يُعرف بالمعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز له هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها؛ لأن ذلك غيبة محرمة، وهو الذي فيه النصوص، ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً وأقر لم يُفسر ولم يُستفسر منه، بل يُؤمر بأن يرجع فوراً ويستر على نفسه.

وأما الثاني: فمن كان مشهوراً بالمعاصي، مُعلناً بها، داعياً إليها، لا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له في هذا، فذاك الفاجر المعلن وليس له ريبة كما نص على ذلك الحسن البصري وغيره.

أيها الأحبة! ينبغي أن نفرق فمن الناس من يقع في زلته الأولى أو خطيئته أو مشكلته التي وافقت أنها وقعت في يد أو في علم أو في اطلاع واحد من أهل الخير، الواجب حينئذٍ إذا لم يُعرف عن الرجل أنه من أهل الفساد ولا من أهل المعاصي ولا من الدعاة إلى الشر ولا من الدعاة إلى الخطيئة؛ فالواجب زجره بالموعظة، وتوبيخه بالنصيحة، والقول البليغ في حقه لعله يرتدع وينزجر ويُخوف، ثم بعد ذلك يُستر عليه حتى لا نتفاخر بأن كثيراً من المسلمين وقعوا في المعاصي، أو حتى لا يفشو أن هذا المجتمع قد بلغ به الفساد حتى فيمن يُظن بهم الخير.

أما من كان داعية إلى المعصية، مروجاً لها، ناقلاً لها، مزيناً لها، كما يفعله بعض العصاة، تجده يعصي ويهتك ستر الله عليه ويجاهر ويأتي بالصور من الخارج، ويقول: هذه صورة مع الراقصة، وهذه صورة مع فلانة، وهذه صورة شرب، وهذه صورة منكر، وكنا في كذا، وفعلنا يوم كذا وكذ وكذا وطربنا وشربنا ورقصنا وسافرنا ورأينا وفعلنا وسهرنا وو الخ ثم يحض على المعصية ويدعو إليها، فذاك لا ينبغي تركه إذ أنه سوسة نخرة وسرطان في بدن الأمة فلابد من بتره وقطعه، إن لم تُفد فيه المواعظ والنصائح.

قال الإمام مالك: "من لم يعرف منه أذىً للناس وإنما كانت منه الزلة فلا بأس أن يُشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عُرف بشر واشتهر به، أو فساد وعرف به فلا أحب أن يشفع له أحد، ولكن يترك حتى يُقام عليه الحد" حكاه ابن المنذر وغيره.

وقد ذكر النووي: أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به، أي: قد تكون في الرجل أمور من الفسق، فأمور جاهر بها وأمور سترها، فالأمور التي هي من الفسق التي سترها لا يجوز أن يعير بها جهاراً، والأمور التي من الفسق جاهر بها يعير أو يؤخذ بها جهاراً، وهذا من تمام الفقه والعلم.

وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إليه المعترفون بأنفسهم، يأتيه ماعز، فيقول: يا رسول الله، زنيت فيدفعه ويقول: (لعلك قبلت، فيأتيه مرة أخرى فيقول: لعلك فاخذت فيأتيه مرة أخرى فيقول: لعلك كذا ثم يقول: انظروا بصاحبكم هل تشمون منه خمراً، أتعرفون عنه جنوناً؟) إن الإسلام لا يتشوف إلى هتك الأستار.

بعض الناس يظن أن هذا الدين يتعطش لقطع الرقاب وقطع الأيدي، وأن الدين يتعطش لبطح الناس عند المساجد وجلدهم، وأن الدين يتعطش لفضح الناس أمام الملأ والمجامع، لا، ليس هذا من مقاصد الشريعة، بل إن من مقاصد التشريع الستر على الناس إلا من كان فاجراً ساعياً بالفساد بين المؤمنين فذاك رجل ينبغي أن يبعد وأن ينتبه لفسقه وشره.

وإني أسأل الله جل وعلا بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل هذه الكلمات حجة لنا لا حجة علينا.

ويا أيها الأحبة! أقولها مراراً: إن هذه الصحوة خاصة، والمسلمين عامة بحاجة إلى تربية في السلوك، إننا بحاجة إلى حُسن الخلق، إننا بحاجة إلى حُسن المعاملة، إن الأزمة أزمة معاملة والأزمة أزمة أخلاق، والمصيبة مصيبة أن كثيراً منا قد تعلم شيئاً كثيراً ولكن يجهل كثيراً من الخلق وحسن المعاملة.